سقط أكبر عدد من أنظمة الحكم الأسرية في العالم في النصف الثاني من القرن الماضي. ويتوالى تقلص عدد هذا النمط من الحكم عاما بعد عام. وإن اختلفت أشكال السقوط المتفاوتة منها بين الدموي والسلمي، فإن الأسباب تكاد تكون متشابهة.
ففي الأسبوع الأخير من الشهر الأخير من السنة الفائتة اتخذ البرلمان النيبالي القرارات التالية:
أولاً- تحويل المملكة إلى جمهورية فيدرالية ديمقراطية.
ثانيًا- إقامة نظام انتخابي يدمج بين التمثيل النسبي والأكثري.
ثالثًا- إصدار دستور جديد بعد انتخاب المجلس التأسيسي.
هذا وقد سبق وإن وافق البرلمان النيبالي في يوم الخميس المؤرخ 18-5-2006 على خطة تقليص سلطات الملك، وهذه أركانها:
1- انتزاع سيطرة الملك على الجيش وتجريده من لقب القائد الأعلى للجيش.
2- إلغاء تسمية الحكومة بحكومة جلالته، والاكتفاء بتسميتها بحكومة النيبال.
3- تحويل المملكة من دولة هندوسية إلى دولة علمانية.
4- فرض ضرائب على الملك.
5- إقرار حق المواطنين بالاعتراض على تصرفات الملك أمام المحاكم.
6- يضطلع مجلس الوزراء بتعيين قائد الجيش الذي تحولت تسميته من الجيش الملكي النيبالي إلى الجيش النيبالي.
7- جعل سن القوانين المتعلقة بوريث العرش واتخاذ القرارات بشأن امتيازات ونفقات الملك من سلطة البرلمان.
8- إلحاق أمانة سر الملك المهيمنة والمشرفة على شؤون القصور بالجهاز الحكومي المدني.
بين هذين التاريخين يبرز السبب الأول في سقوط الأسرة النيبالية المالكة إذ أنها تلكأت في تقديم التنازلات و تباطأت في تلبية المطالب الشعبية والبرلمانية التي وإن نزعت من الأسرة المالكة سلطات واسعة إلا أنها قبلت ببقائها واستمرار وجودها كرمز موحد للأمة. لقد جاءت هذه المطالبات بعد أن خذل الملك الشعب النيبالي باحتكاره للسلطات عام 2005 وبعد أن تجاهل ما يصبو إليه شعبه ولم يحترم تضحياته خلال أسابيع طويلة من الاحتجاجات المستمرة التي لم تخل من ضحايا.
لقد أطاح الملك "جيانيدرا" بالحكومة في الأول من فبراير 2005 بعد أن اتهمها بالعجز عن القضاء على تمرد الثوار الماويين، الذي سقط خلاله أكثر من اثني عشر وخمسمائة قتيل منذ اندلاعه عام 1996 وتولى الحكم بصلاحيات مطلقة. وكان ملك النيبال قد حل البرلمان في مايو 2002 بعد أن تبين أن النواب عازمون على رفض تمديد حالة الطوارئ التي أعلنها الملك قبل ستة أشهر لقمع المتمردين الماويين المناضلين ضد الملكية.
وبعد فوات الأوان وتعاظم القوة الشعبية من خلال توحد الأحزاب السياسية من ناحية و تنازل الحركة الماوية المسلحة عن بعض مطالبها وقبولها بالتنسيق مع الأحزاب السياسية من ناحية ثانية أسقط بيد الملك فأعاد البرلمان وسلم السلطة لحكومة متعددة الأحزاب. وفي هذا يكمن السبب الثاني. وجاء السبب الثالث لسقوط الأسرة الحاكمة النيبالية والذي كان بمثابة الحدث القاصم لظهر الأسرة الحاكمة في النيبال وهو إعلان قائد الجيش الجنرال (بايار جنك ثابا) في التاسع والعشرين من مايو عام 2006 قبول الجيش لسلطات الحكومة الجديدة وأن قواته ملتزمة بالنظام الديمقراطي الجديد . وتلا ذلك تأييد قطاع كبير من رجال المال للتغيير الديمقراطي أملا في الاستفادة من المساعدات الدولية الموعودة و وعيا بسقوط النظام الذي طالما انتفعوا من خلاله.
وقد مهد لنشأة هذه الأسباب الثلاثة السابقة الحالة البائسة للأسرة النيبالية المالكة من تفكك وفساد و احتكار للصناعة والتجارة وتفسخ أخلاقي و تضييع للمال الشعبي وثروات النيبال على الملذات والشهوات بدلا من أن تكون رمزا و مصدرا للوحدة والاستقرار والتنمية والعزة الوطنية والنموذج المحتذى في الأخلاق والسلوك الخاص والعام. وقد خلع الشعب النيبالي ما أسبغه على هذه الأسرة من قدسية وألوهية هندوسية طوال ما يزيد عن مائتين وثمانين عاما لما ظهر منها من سيئات وانحرافات خاصة بعد مجزرة القصر الملكي " نارا يا نهيتي" التي وقعت عام 2001.
وهناك ثلاثة روايات عن هذه المجزرة التي قتل فيها الملك (بيرندرا) وزوجته الملكة (أشوايرا) وابنتهما الأميرة (سوتي)، وابن الملك الأصغر (درجان) وشقيقة الملك وشقيقة الملكة وولي العهد (دبندرا). تقول الرواية الأولى أن ولي العهد الأمير (دبندرا) هو الذي ارتكب الجريمة لرفض والديه تزويجه من فتاة يعشقها وهي نصف هندية اسمها (ديفياني رانا) ثم أطلق النار على رأسه وتوفي لاحقاً في المستشفى. والرواية الثانية تتحدث عن أن مدفعا رشاشا قد انطلق بطريق الخطأ، أما الرواية الثالثة فترجح أن المجزرة هي عملية انقلاب دبرها شقيق الملك (جيانيدرا) الذي آل إليه العرش للمرة الثانية منذ عام 50 عندما نصب ملكاً بعد هروب الأسرة الحاكمة إلى الهند إثر اضطرابات سياسية في المملكة. وهذه الحالة البائسة سبب رابع لسقوط الأسرة النيبالية الحاكمة .
أما السبب الخامس فهو تقلب التدخلات الخارجية خاصة الهندية والصينية والأمريكية التي لكل منها مصالحها وأهدافها . وأهم ما يذكر في هذا الإطار هو الانقلاب المنهجي الإستراتيجي في مسيرة الثوار الماويين والذي فاجأ جميع الأطراف وذلك بالقبول بالحل الديمقراطي وبتغيير النظام الملكي دون التعرض للنظام الإقطاعي الرأسمالي . فكان هذا القبول مراجعة جذرية في موقف الماويين مما أربك سياسات الدول الأجنبية. حيث أن الولايات المتحدة الأمريكية تعارض بشراسة القبول بالثوار في أي حل سياسي بل إن الإستراتيجية الأمريكية المعلنة تقول: (إن حماية النظام الملكي الدستوري في النيبال، و ديمقراطية التعددية الحزبية هما السبيل إلى هزم التحدي الماوي. وأنه يجب أن يتوحد القصر مع الأحزاب – بصورة مستعجلة – في ظل حكومة متعددة الأحزاب كخطوة أولى نحو إقامة الديمقراطية و بناء جبهة موحدة ضد التمرد الإرهابي). وبالمثل فان الهند تعاني من تعاون الماويين مع التحركات المسلحة على حدودها الشرقية ومع الأحزاب الشيوعية الهندية و تعطي استثماراتها في النيبال أولوية قصوى. وللصين معادلة معقدة فرضتها أولويات الواقع المتجاوزة للالتزام الفكري وقد تخلت الصين عن الملك مع تصاعد وتيرة التغييرات السياسية في النيبال.
وتبقى دروس هذا السقوط مع دروس أخرى كثيرة سابقة في صفحات التاريخ قل من يتمعن فيها وندر من يتعظ بها.
الخميس الأول من محرم 1429 هجرية الموافق 10 يناير 2008 ميلادية