"نوبوآكي نوتو هارا " مستعرب – ولا أقول مستشرق- ياباني، درس العربية وعلومها وملابسات حياة شعوب المنطقة الناطقة بها خلال أربعين عاما من عمره، درسها ودرّسها، وترجم بعض ماكتبه رجالاتها من الذين يعرفهم أبناؤها ومن الذين لانعرفهم ولم نسمع بهم، هذا الرجل قضى جزءاً كبيرا من حياته يجوب مشارق المنطقة العربية ومغاربها، أحب أهلها وأحبوه وعاش بينهم كواحد منهم، لم يقتصر في دراسته على أعداد قليلة من أبناء المدن والعواصم،
والذين يقدمون أنفسهم على أنهم النخب العربية، لم يكتف بما جاء في الكتب التي تقدمها جامعات دمشق وليبيا وبغداد والقاهرة للمستشرقين والمستعربين من أسماء وأعلام وكتب وتاريخ، لم يكتف بلقاآت مقتضبة أجراها مع رجالات تلمع أسماؤهم بين الحين والحين في منتديات ومؤتمرات ويقدمهم الاعلام على أنهم رجال الأمة وعقولها والممثلين عنها، لم يكتف بشيء من هذا لكنه رحل الى البوادي المنتشرة في أنحاء المنطقة العربية، عاش بين الناس في شوارع القاهرة الفقيرة المنسية، وزار أطراف بني غازي التي لايعرفها أحد، سكن دمشق وتعرف الى سكان الحارات الخلفية التي لايجرؤ أحد على أن يعترف بأنها من دمشق لأنها تستثنى من كاميرات التصوير لدى تقديم دمشق للعالم من خلال عدسات التصوير، بالضبط كما يستثنى كل شيء في مكة والمدينة ماعدا الحرمين العظيمين من المرور خلال أعين الكاميرات العربية الرسمية المصابة بحول ونفاق وكذب مرَضي خطير، والأمر نفسه يتكرر في كل العواصم العربية بدءا من دبي وانتهاءا بالدار البيضاء، الصورة التي يقدمونها لنا تختلف جذريا عن تلك التي تراها بأم عينك عندما تزور تلك العواصم!." نوبو آكي " استوعب هذا الأمر منذ بدء خطواته في طريق الاستعراب فاختار أن يدرس ويُدَرس ذلك العالم العربي الذي لايعترف به أحد من أهله، فالعرب يفضلون أن يكذبوا على أنفسهم مروجين لتلك الصور المبالغة في الكذب والتي تقدمها وسائل إعلامهم عن بلادهم ! اعتاد العرب الكذب حتى استساغوا الكذب على أنفسهم!، فالكذب أحد أهم العلل بالغة الخطورة المتفشية لدى الناس في المنطقة العربية يستوي في ذلك الحاكم والمحكوم.
كتب نوبو آكي نوتوهارا في مقدمة كتابه "العرب وجهة نظر يابانية " يقول : "أربعون عاما تدفعني دفعا لأقول بعض الأفكار والانطباعات عن الشخصية العربية المعاصرة، أن أكتب شيئا مما أعرفه ومارأيته بعين المراقب المقارن، ولكن المراقب المحب الحريص، المراقب الذي أعطى العرب حتى الآن أربعين عاما من عمره ". لقد أراد أن يردّ بصدق وحرص جميل الكرم والصداقة التي أولاها إياه العرب، أن يرسل إليهم من خلال كتابه هذا رسالة يتكلم فيها عن آلامهم وأمراضهم ومايمكن أن يكون بالنسبة إليهم مقارنة بالأمة اليابانية طريقا للخلاص.
لست هنا بصدد دراسة هذا الكتاب (1) الذي لايتجاوز ال140 صفحة من القطع الصغير، وشبه الفريد من نوعه بين الكتب التي تحدثت عن العرب والمسلمين من وجهة نظر "الآخر"، ولكنني أنقل الرسالة التي أراد أن يوصلها إلى العرب هدية ثمينة ونادرة، قدم لنا عيوبنا بعيون يابانية مُحبة منصفة..عيوب الشخصية العربية المعاصرة كما رآها، عيوب نعرفها حق المعرفة، ولكننا لا نمتلك الشجاعة الكافية للاعتراف بها، حالة من النفاق النفسي الخطير نعانيها،حالة من الانفصام الحاد بين تصورنا عن أنفسنا وبين الواقع الذي نعيشه.
كان أحد تلاميذي من الفتيان يأتي دائما بحال نفسية وجسدية مزرية، وكنت أعرف أن والده كان يضربه ضربا مبرحا وقد تجاوز الثانية عشرة، وكان الفتى يكره والده ويرزح تحت نير عبودية مقيتة أبغض مافيها أنها كانت معروفة للقاصي والداني في المحيط الاجتماعي الذي نعيش فيه، طلبت من الفتيان مرة أن يكتبوا موضوعا عن "الأب" ، هكذا دون أن أوجه الفتيان الى زاوية معينة من زوايا الموضوع الخاص بالأبوة، فإذا بالولد يأتيني بموضوع مذهل عن أبيه الصابر المحتسب الذي يخرج إلى العمل في السادسة صباحا ولايعود إلا في الليل ليؤمن للأسرة لقمة العيش، أبوه الذي رفعه في موضوعه إلى درجة التقديس والألوهية، أبوه -وكما قال بالحرف- : الذي من حقه أن يؤدبني ويضربني فهو الذي يعرف مصلحتي ولولا ذلك ماضربني كل هذا الضرب !!. يقول "نوبو أكي " :إن قمع الطفولة مسؤولية عامة في المجتمع العربي وهذا القمع يتخذ أشكالا مختلفة، نحن في اليابان نحسب حساب الطفل كجزء أساسي من هيكل حياتنا، إن رعاية الطفولة ضعيفة للغاية في البلدان العربية بدءا من الأبوين وانتهاء بمؤسسات المجتمع "، هناك قمع ظالم في المنطقة العربية يمارسه الأب أو الأم أو كلاهما ضد الأطفال، الذين لايتم التعامل معهم إلا عن طريق الضرب والإهانة، ومع هذا القمع الوحشي لايمكن للطفل التحرر من ظلم الأبوين، بل على العكس من ذلك لابد لهذا الطفل أن يعترف لأبويه بالفضل لأن هذا من "البرّ " !!، هنالك ولدت بذرة النفاق الأولى في مجتمعاتنا التي تعاني تصورا عضالا مستعصيا في فهم النصوص الشرعية التي أنزلتها في غير أمكنتها المناسبة لدى معالجة المشكلات العارضة والطارئة في المجتمع!!.
في البيت ولدت هذه الجراثيم التي تسمى الخوف والخنوع والخضوع والاستكانة، وهنالك نشأ مذهب النفاق السياسي والاجتماعي الذي فتك بالأمة، والذي يتجلى بأمراض انسانية واجتماعية خطيرة نعيدها كلها جملة وتفصيلا الى الاستبداد السياسي الذي لم يفعل غير أن كرسها واستغلها لمصلحته!.
كتب المستعرب الياباني يقول: "بعد عشرة أعوام من زيارتي الاولى للقاهرة، أصبحت رغبتي في الخروج الى الشارع قد ذبلت، لم يكن السبب أنني أكره الغبار والضجة والازدحام، كان السبب أنني كنت أرى توترا شديدا يغطي المدينة كلها".... "في سورية - كما يقول - قابلت صورا مختلفة تماما عن سورية التي كانت في ذهني عندما درستها، لقد سمعت أصوات الأنين من أهلها داخل سورية وخارجها، السوريون ليسوا سعداء، الصورة مفقودة، مُنعت من الظهور في التاريخ فبقيت مخبوءة مستورة مفقودة ".
"هل تختلف العواصم العربية الأخرى ؟ إن الناس في شوارع المدن العربية ليسوا سعداء، وليسوا مرتاحين، سمعت صرخة في الجو الخانق الصامت ومازالت في أذني ".
هل نحن قادرون على احتمال مثل هذه الرسالة من هذا المستعرب ؟ هل نحن قادرون على قبول نقد منصف لايهاجم ديننا ولا قناعاتنا ؟ هل نحن مستعدون لإجراء عملية نقد ذاتي عام شامل لكثير من جوانب حياتنا التي يجب أن نبحث فيها عن كل أسباب الذل والخنوع والتخلف والانحطاط والكآبة والحزن الذي يعيشه الناس ؟ أيضا سؤال بسيط وخطير يجب أن نواجهه إذا أردنا أن نستيقظ ونقوم من هذه الموتة العظيمة التي تعانيها الأمة ومازالت تنعي باللائمة فيها على حكامها وتعلق المسؤولية فيها على كل المشاجب الممكنة، دون أية قدرة شجاعة على الاعتراف بالخطأ وتحمل المسؤولية.
- يتبع-
__________________________________________________
(1) العرب وجهة نظر يابانية /نوبو آكي نوتوهارا
من منشورات الجمل 2003