يبرر سيناريو التعاطي الأميركي مع الشكوى التي تبنتها المجموعة العربية مؤخرا إلى مجلس الأمن على خلفية حصار غزة واعتباره كيانا معاديا ، وقطع الإمدادات الحياتية الأساسية عنه ، يبرر فتح ملف هذا المجلس وتقليب صفحاته . إن الحديث فلسطينيا وعربيا عن مجلس الأمن التابع لمنظمة الأمم المتحدة ذو شجون وأشجان . ذلك أن حصيلة التجارب الفلسطينية بخاصة ، والعربية بعامة على خلفية تعاملها معه ، تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أنها كانت مريرة ، ومخيبة للآمال ،

وشكلت في غالبية المرات رهانـا خاسرا ، كون هذا المجلس في وضعه الراهن ، قد أصبحت له معايير مزدوجة ، ويكتال بمكيالين مختلفين ، والأخطر من ذلك أنه يخضع للإرادة الأميركية .

      ولسنا هنا بصدد الحديث مطولا عما آلت إليه الشكوى العربية . باختصار لقد تخلى مجلس الأمن عن استصدار بيان رئاسي حول الأوضاع الكارثية في قطاع غزة – وهو على فرض استصداره لن يكون ملزما بأية حال من الأحوال . إنه الإصرار الأميركي على أن يكون هذا البيان " متوازنا " . والتوازن من منظور أميركي يعني تجنيب إسرائيل من أية إدانة أو لوم ، أو إلزامها بما لا ترضى عنه ، وإلا كان الفيتو له بالمرصاد .

      بادىء ذي بدء لا بد من الإعتراف أن القضية الفلسطينية قد احتلت مساحة شاسعة من فعاليات منظمة الأمم المتحدة ومداولاتها ، وحظيت بأعلى نسبة من الإنعقادات والإجتماعات واللقاءات والمداولات والمشاورات على شرفها . إن أية قضية أخرى لم تحظ لا قبلها ولا بعدها بمثل ما حظيت به من وقت وجهد ، سواء كان ذلك في مجلس أمنها او جمعيتها العمومية او مؤسساتها المختلفة الأخرى التابعة لها .

      إلا أن ما تمناه الشعب الفلسطيني شيء ، والواقع شيء آخر . والحالة الفلسطينية خير مثال على هذا الطرح . فتحت ظلال الأمم المتحدة ، وتحديدا مجلس أمنها ، كابد الشعب الفلسطيني معاناته التاريخية على صعيدين . أولهما مأساته المتمثلة في اغتصاب كامل تراب وطنه وتهجيره إلى الشتات عبر سلسلة من الحروب شنت عليه في كل مكان تواجد فيه ، وما زال يكتب صفحاتها بدم أبنائه .

      وأما الصعيد الثاني فيتمثل في مجمل علاقاته مع مجلس الأمن الدولي . وهي علاقة أورثته المزيد من المعاناة . فالقضية الفلسطينية أصبحت حالة مستعصية في أروقته وخلف كواليسه . وبرغم عدالة هذه القضية وشرعيتها ، فإن واحدا من القرارات الأممية المناصرة لها لم يجد وسيلة حقيقية لإخراجه إلى حيز التنفيذ . وظلت هذه القرارات حبرا على ورق ، وليس لها أقل رصيد .

      على مدى ثلاثة وستين عاما هي عمر المنظمة الدولية ، يمكن القول بأن الشعب الفلسطيني ، ومعه الشعب العربي لم يحققا أي إنجاز يذكر . فهما وإن تمكنا في حين من الزمن من استصدار " قرارات الحد الأدنى لصالح القضية الفلسطينية " إلا أنه وتحت ظلال الأنظمة السياسية العربية ، لم يحظيا بقرار حاسم واحد على الصعيد الفعلي والتنفيذي .  

      في التعامل مع مجلس الأمن ، يمكن رصد ثلاثة أشكال من القرارات هي نصيب العرب بعامة ، والفلسطينيين بخاصة من هذا المجلس . الشكل الأول يتمثل في قرارات الحد الأدنى التي استهللنا بها ، ومثالا لا حصرا القرارات 184 ، 191 ، 242 ، 338 ، وهي تخص القضية الفلسطينية . وهي في مجموعها قرارات فيها بعض الإنصاف ، إلا أنها ظلت حبرا على الورق ، مطمورة ملفاتها في غياهب أرشيفات المنظمة الدولية .

      أما الشكل الثاني من القرارات التي تخص القضية الفلسطينية وتداعياتها ، فهو قرار واحد كررته الولايات المتحدة الأميركية عشرات المرات ، تمثل في حق النقض " الفيتو " أو التهديد باستخدامه . وعلى الأرجح أن الفيتو هذا قد أصاب عدة عصافير بحجر واحد .

      فمن جهة كان لحماية إسرائيل من أي شكل من أشكال الإدانة ، والحيلولة دون تنفيذ ما ليس لها رغبة فيه . ومثالا لا حصرا موضوع الكف عن مصادرة الأراضي الفلسطينية ، وإقامة المستوطنات عليها ، أو المراقبين الدوليين ، أو نشر قوات دولية ، أو لجان تحقيق ، أو أية قرارات أخرى ترفضها إسرائيل . ذلك أن القرارات التي ذكرناها آنفا ، كانت بمثابة تنغيص لها ، لطالما سعت لطمسها ، والإلتفاف عليها .

      ومن جهة أخرى ، فقد شكل الفيتو الأميركي صفعة في وجوه كل الجهات ، عربية كانت أو إسلامية أو دولية أخرى بغية إحباط أي مسعى للنيل من إسرائيل ، كونها من منظور أميركي خطا أحمر لا يجوز الإقتراب منه .

      أما الشكل الثالث من قرارات مجلس الأمن فهو ما يخص القضايا العربية الأخرى ، ومثالا لا حصرا كل القرارات الصادرة ضد ليبيا والسودان والصومال ولبنان وغيرها . فهذه القرارات كان لها رصيد ضخم على أرض الواقع ، وأصرت الولايات المتحدة الأميركية على تنفيذها بحذافيرها . وعلى الأرجح أن هناك في جعبة الولايات المتحدة وحليفتها إسرائيل تشكيلة من القرارات المعدة مسبقا والمعادية بطبيعة الحال للقضايا العربية تنتظر دورها تباعا وحسب مقتضيات الظروف والمتغيرات .

      لقد اكتشف المواطن الفلسطيني بخاصة ، والعربي بعامة منذ زمن بعيد أن مجلس الأمن هو مجلس الأقوياء الذين نصبوا أنفسهم أولياء أمور على العالم وقضاياه . وفي حقيقة الأمر ، ومنذ انهيار الإتحاد السوفياتي أصبحت الولايات المتحدة الأميركية هي القوة العظمى الأحادية القطب . وهي بالتالي المسيطرة على المنظمة الدولية والمتحكمة بمجلس أمنها ، وكأنه أصبح جزءا لا يتجزأ من الإدارة الأميركية . وهكذا فإن التعامل معه عربيا وإسلاميا له محاذيره ، وأصبح له معايير أخرى غير تلك التي تأسس من أجلها .

      كلمة لا بد منها . إن العلاقة مع مجلس الأمن ومن تسيره كان يمكن لها أن تتخذ مسارا غير الذي تتخبط فيه الأنظمة العربية ، ولا تجني سوى المواجهة والصد والفشل والإحباط وزوال هيبتها وتأثيرها أمام جماهيرها . إن الأنظمة العربية تعلم علم اليقين أن التعامل مع مجلس الأمن بوضعه الحالي ، وبوضعها هي الحالي هو بمثابة لجوء الأيتام إلى موائد اللئام . إنه العبث ومضيعة الجهود والإلتفاف على ما يفترض وما يفرضه الواجب القومي تجاه كل قضية عربية وبخاصة القضية الفلسطينية والقدس والمقدسات الإسلامية .

      لقد سلكت الأنظمة العربية ومعها الإسلامية مسار العجز والضعف والفرقة والإستجداء والإستعطاف ، وهي تملك كل وسائل القوة والعزة والمنعة التي لم تقم بتفعيلها ، أو أنها ترفض ذلك ، أو حتى ترفض الإشارة لها في معرض علاقاتها مع الدول صاحبة القرار . وخلافا لذلك آثرت ولحاجة في نفوس أصحابها أن تسلك هذا المسار الذي لا يسمن ولا يغني من جوع . وهو ذات المسار الذي ما زال يجر العالم العربي القهقرى ، فبات في حال يرثى لها ، لا يجيد الرهان ، فمجلس الأمن في حالته هذه رهان خاسر وأي خاسر .

      خلاصة القول إن العالم العربي بإمكانه أن يكون إحدى القوى الفاعلة والمؤثرة في السياسة العالمية خدمة لقضاياه وأهدافه القومية . والأمم المتحدة بمجلس أمنها وجمعيتها العمومية ليست ساحة نزال للضعفاء . إن دبلوماسية الجري وراء استصدار المزيد من القرارت منها أيا كان لونها وشكلها هو العبث واللهث وراء السراب . إن العالم العربي وإن كان لا يملك حق النقض " الفيتو " ، إلا أن ثرواته وإمكانياته ومقوماته الأخرى هي أعظم فيتو في وجه كل الطامعين به والمستهينين بمقدراته إنسانا وأرضا وقضايا تخصه .

شاعر وكاتب فلسطيني

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية