بداية الحديث : إذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية قد أبتليّت بأحد عشر أيلول – سبتمبر فهي قد أبلت العالم العربي والإسلامي بمئات أحد عشر أيلول – سبتمبر , و إذا كانت واشنطن قد أصيبت في برجين من أبراجها العاجيّة فهي قد أصابت كل أبراجنا الجغرافيّة والسياسيّة و الثقافيّة و الإقتصادية والأمنية والعسكريّة و التربوية ولم يبق لنا برج واحد نلوذ به فيما مازالت هي تحتفظ بكل الأبراج ..... تقوم السيّاسة الأمريكية كما يعترف بذلك أحد أبرز مشكلّيها هنري كيسنجر على إقامة أزرار إنفجار في مواقع السخونة وغيرها والتي لأمريكا فيها مصالح جيوسيّاسيّة واسعة , و أحيانا تلوذ أمريكا بتفجير هذه الأزرار ليتبركنّ الوضع السياسي في هذه المنطقة وتلك ومن تمّ يفضي ذلك إلى تسهيل مهمة أمريكا الجاهزة جيوشها دوما للتدخّل السريع .
وقد إعترف بعض ضبّاط المخابرات الأمريكان المتقاعدين كيف كانوا يلجأون إلى تفجير الكنائس في أمريكا اللاتينية لتأليب المسيحيين في هذه البلاد على الحركات الثوريّة الشيوعية التي كانت تحارب الوجود الأمريكي .
و قد قامت السياسة الأمريكية على هذا المبدأ حيث تقوم دوائر صناعة الخطط الأمريكية الخارجية المتحالفة مع الشركات المتعددّة الجنسيات بإجراء مسح على خرائط الكرة الأرضية ويدرس كل إقليم على حدا , وكلمّا كان هذا الإقليم مستجمعا للثروات الظاهرة والباطنة كلما كان ذلك أدعى لكي توليه واشنطن العناية الكاملة , و في هذا السيّاق يقول أندري تولي صاحب كتاب الجوسسة الأمريكية , أنّه إذا دخلت مقرنا في لانغلي – مقّر المخابرات الأمريكية – فلا تتعجب إذا وجدت أشخاصا يتقنون عشر لغات بما في ذلك اللغة العربية , و يستطرد قائلا بل إنّ فينا فقهاء في القانون الإسلامي !
ويقول في مجال آخر كل دولة يحيطها بالدراسة والتنقيب عن كل صغيرة وكبيرة فيها عشرون حكيما وخبيرا في مختلف شؤون الخبرة , فالملف المصري بيد مجموعة من المخبرين الأذكياء وعلماء النفس و الإجتماع شغلها الشاغل مصر وكذلك الجزائر و تونس وليبيا وإيران وسوريا ولبنان واليمن و ما إلى ذلك .
و حتى عندما يصادف هؤلاء الخبراء مقومات فتنة نائمة في هذه الدولة أو تلك يقومون بإحيائها وإحتضانها , و هذا ما يفسّر ولع الأمريكان في التعامل مع الأقليات والإثنيّات لا حبّا فيها و إرادة منها في منحها حقوقها بل لإتخاذها جسرا إلى تفعيل مصالحها هنا وهناك , و أدلّ برهان على ذلك هو قيام أمريكا بوأد حقوق الهنود الحمر و بعدهم السود , فإذا كانت هذه الأعراق لم تحصل على حقوقها في الجغرافيا الأمريكية فكيف يحصل الآخرون على هذه الحقوق !
وقد سمحت هذه السياسة بتفسيخ العالم العربي والإسلامي و إحياء المتناقضات و تهيئة كل إقليم عربي لمشروع حرب أهلية حقيقية , بل وتدخلت في صيّاغة النظم السياسية في العالم العربي والإسلامي , فأحيانا تصيغ نظاما قوميا وأحيانا نظاما شيوعيا وأحيانا نظاما إسلاميا لا علاقة له البتّة بالإسلام الحضاري وأحيانا تصيغ نظاما عائليّا عشائريّا , و على حدّ تعبير بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق في كتابه مبدأ القوّة والذي قال :
لا تهمّ الإيديولوجيا بقدر ما تهمّ المصلحة الأمريكية و المصلحة الأمريكيّة فقط .
ولأنّ أمريكا لا مبدأ لها فقد تعودّت أن تدوس على الذين قدمّوا لها خدمات جليلة و أبرز مصداق على ذلك تخليهم عن شاه إيران محمد رضا بهلوي الذي إستنجد بأطبائهم فمنعوه من دخول أمريكا للعلاج , و تخليهم عن ماركوس في الفليبين وإعتقالهم لنورييغا في بنما بعد أن كان ضابطا عميلا للمخابرات الأمريكية بإمتياز , وعدم منحهم تأشيرة دخول لأمريكا بغية العلاج للرئيس السوداني الأسبق جعفر النميري وهو الذي مكنّ لهم ولمخابراتهم في السودان .
ولطالما أشرفوا على صناعة الطغاة في واقعنا العربي والإسلامي و أمدوهم بالرعاية وتقنية قلع الأظافر و إحراق الأجساد وسكتوا عنهم دهرا , و عندما إقتضت المصلحة الأمريكية أن يرفعوا عقيرتهم بالتنديد راحوا ينددون ببوارجهم الحربيّة و طائراتهم وقنابلهم الفتّاكة وتحديدا ب 52 التي تدمّر أول ما تدمّر كل البنى التحتيّة الإقتصاديّة لتدعى الشركات الأمريكية بعدئذ لتعيد البناء بأقوات الأجيال الراهنة واللاحقة ولتكبّل هذا الوطن وذاك بمديونيّة ضخمة على مدى قرن بكامله وأبعد من ذلك .
وفوق هذا وذاك فإنّ الولايات المتحدّة الأمريكية تتقن فنّ الإذلال بإحكام , فالحاكم العربي الذي تخصصّ في صناعة السجون و بقر البطون وحلق الذقون وتحويل العاقل إلى مجنون تحولّ إلى ساعي بريد للأمريكان و جاسوس بإمتياز , و كلما تريد واشنطن إذلال عاصمة عربية أو إسلامية غير مرضيّ عنها أمريكيّا فإنّ الإدارة الأمريكية توفد هذا الرئيس العربي أو ذاك لنقل رسالة أو تهديد , وفي كل الحالات والأحوال على هذا الرئيس العربي ساعي البريد أن يكتب تقريرا مفصلاّ عما سمعه في هذه العاصمة وتلك وماذا دار بينه وبين صنّاع القرار في تلك الدولة التي تريد منها واشنطن شيئا .
وكثير من رؤسائنا العرب يتهافتون بل يتقاتلون للعب دور ساعي البريد لواشنطن ورسائلها السياسيّة والأمنية , و عندها تنتقي واشطن الأكفأ أمنيا وإستخباراتيا والأقدم في الخدمة .
ولأجل ذلك تنظر أمريكا إلى الشعوب العربيّة والإسلامية بكثير من الإحتقار والإذلال و الإهانة و الشتيمة والتعالي والرفعة , على إعتبار أنّ هذه الشعوب يحكمها سعاة بريد لصالح الأمريكان , يحكمها جواسيس لأمريكا كشف عن بعضهم بوب وورد في كتاب عن المخابرات الأمريكية وفيه يقول أنّ المخابرات الأمريكية وظفّت بعض الرؤساء العرب وكانت تدفع لهم أجورا منتظمة في حسابات مختلفة .
و إذا تبينّت هذه الخلفيّة فكيف يسمح ساعي البريد هذا والجاسوس بإمتياز لأمته أن تنهض من مقوماتها الذاتية ومقدراتها الخاصة بعيدا عن خطّ الأمركة و التأمرك , بل سيكون دوره أن يجيّر كل الأمة وتاريخها وراهنها ومستقبلها لصالح العم السام لصالح الأمريكان , و عندما يطلب من سعاة البريد هؤلاء وهم كثر أن يدلوا بموقف أو تصريح لصالح هذه القضية المستضعفة أو تلك يجيبون بأن أمريكا ترصد وتراقب و نحن لا نقدر أن نزعجها , فهي وليّة نعمتنا , من ذا يدفع لنا المليون والمليار دولار !
ولعمري أعرف بعض الرؤساء العرب يجلسون كالنسوة الأسيرات أمام السفير الأمريكي في عاصمة بلادهم , ولأنّ السفير الأمريكي يعرف أنّه أمام ساعي بريد جاسوس ومرتزق فإنّه يرفع قدمه ونعله ويوجّه نعله إلى وجه الرئيس دون أن ينبس الرئيس ببنت شفة , وربّ سفير أمريكي في عاصمة عربية غيرّ منطلقات وسياسات وبرامج تربوية وإعلامية !
وساعي البريد هذا و عندما يغادر السفير الأمريكي مكتبه , يتوجّه إلى رجال مخابراته ليسألهم هل وصل ترعيب الناس إلى الذروة , و لذلك تأسسّت المعادلة التي مفادها أنّ الرئيس الأمريكي يصفع رؤساءنا ورؤساؤنا يصفعون شعوبهم من باب الحفاظ على الكرامة والرجولة و هيبة الدولة و قدسية الجمهوريّة !!!!!