خلال خمسة عشر قرنا هي عمر وجود الإسلام كانت العروبة الإطار الثقافي الجامع للأمة العربية بتكويناتها الدينية والعرقية والمذهبية كافة ، وتجاوز دورها كونها لغة حديث أو كتابة إلى كونها إطارا ثقافيا ورؤية أخلاقية يشكل الإسلام عمادها . وفي ظل علاقة جدل مبدع بين العروبة والإسلام عاشت شعوب المنطقة وخاضت معاركها وواجهت أعداءها وأبدعت ثقافتها. . ورغم قسوة الهجمة الاستعمارية الغربية في مراحلها الممتدة من الحروب الصليبية إلى الاستعمار المباشر كانت عروبة الجماعة البشرية التي تعيش بين المحيط والخليج قناعة لا توضع موضع نقاش ولا تثار بشأنها التساؤلات ، ولم تشعر أية جماعة دينية أو عرقية أو مذهبية أن هذا الإطار يعوق قدرتها على تحقيق ذاتها أو يتضمن موقفا مبدئيا معاديا لها أو لمنظومتها الثقافية الفرعية .


من التفاعل إلى الصراع


في هذا الإطار المركب سارت الأمور وتفاعلت الثقافة السائدة مع الأنماط الثقافية الفرعية واتسع نطاق انتشار العربية كلغة أم في محيط لم يتطابق مع خارطة انتشار الإسلام ، فتعربت جماعات بشرية اختارت أن تبقى على معتقدها الديني السابق على الإسلام وأسلمت جماعات بشرية دون أن تتعرب ، فصار للعروبة محيط جغرافي جعلها تكوينا ثقافيا يتسم بسمات محددة في مقدمتها احترام التعددية الدينية والعرقية والمذهبية واعتماد خيار التفاعل بديلا عن الصراع والقبول المتبادل بديلا عن النفي و الاستبعاد .
وقد حققت الثقافة العربية خلال القرون الماضية صعودا متواصلا ، وهو صعود لم توقفه جولات أحرز الغرب فيها انتصارات عسكرية ، بل كانت الهوية الميدان الذي تنتصر فيه الأمة دائما وتخرج أكثر تماسكا . غير أن العروبة بعد هذا الصعود واجهت خلال القرن العشرين من التحديات والمخاطر ما لم تواجه منذ ظهور الإسلام ، وهي مخاطر بدأت قبل القرن العشرين ونضجت في مطلعه ، فواجهت التتريك ، وعندما ولدت القومية العربية كان للبعد العنصري فيها دور ظل يختفي ويظهر بشكل مضطرب ، ففي مرحلة مبكرة من تاريخها أصدر أحد روادها الكبار نجيب عازوري عام 1905 كتابه " صحوة الأمة العربية في آسيا التركية " داعيا لإنشاء دولة الوحدة العربية " من الفرات حتى برزخ السويس " ، معتبرا الناطقين بالعربية في شمال أفريقيا من مصر إلى موريتانيا ليسوا عربا ، وهو منهج استبعادي لم يكن مستغربا أن يستخدم فيما بعد على نحو أكثر حدة ضد غير العرب داخل العالم العربي وبخاصة الأكراد . ثم واجهت بصدور وعد بلفور - للمرة الأولى منذ ظهور الإسلام - احتمال أن ينقطع الاتصال الجغرافي بين شرقها وغربها بكيان معاد مغاير ثقافيا .
ولا شك في أن تحول الصهيونية من مشروع إلى كيان سياسي وضع الثقافة العربية أمام اختبار صعب وفتح الباب أمام حالة من المراجعة وصلت ذروتها عندما تحولت عند جماعات صغيرة عدديا إلى تنصل من العروبة وعداء لها . وازدادت الأزمة استحكاما بسبب " صراعات الديكة " التي خاضها زعماء التيارات العروبية المتشاكسين بلا انقطاع ، وهي صراعات انطوت على حروب ساخنة وباردة بين الناصريين والبعثيين ثم بين جناحي البعث وامتدت ألسنة اللهيب من بغداد إلى دمشق وصولا للقاهرة . ثم تطورت عملية الاستبعاد بفعل تقسيمات حدية أطلقها العروبيون فشطرت العالم العربي إلى تقدميين ورجعيين تراشقا وتشاكسا لسنوات حتى أصبحت العروبة سببا للتفرقة بدل أن تكون عامل جمع ، وأصبحت العروبة مرتبطة ارتباطا يبدو عضويا بالاشتراكية وناصبت الديمقراطية عداء ما زال قائما حتى الآن .
وفي ظل غياب الديمقراطية والأثر الواضح للفكرة العنصرية خاض البعث العراقي حربه التي الظالمة المجنونة ضد الثورة الإسلامية في إيران لخدمة مصالح الولايات المتحدة التي تجمع بين كونها - حسب الخطاب البعثي الصدامي نفسه - عدو العرب الأول وأكبر قوة رجعية في العالم !! . وبطبيعة الحال تركت هذه الحرب أثرا نفسيا سلبيا عميقا في شعب تربطه بالعرب في إطار الدائرة الإسلامية روابط وثيقة ، فضلا عن أن إيران كانت منذ نجاح الثورة الإسلامية النصير الأكبر للقضية الفلسطينية قضية القوميين الأولى ، أو هكذا يدعي القوميون !
ولعبت آفة الصراع على الزعامة دورها فأصبح العروبيون أعدى أعداء العروبيين وسعى بعضهم للإطاحة ببعض ، وفي نهاية المطاف - ودون أن يجد قادته وأنصاره على السواء في ذلك خيانة للمبادئ القومية - تحالف البعث العراقي مع التيار الماروني المعادي للعروبة في الحرب الأهلية اللبنانية! وغني عن البيان أن كل الشعارات الوحدوية التي رفعت على مدى عقود فقدت مصداقيتها عندما ادعى أصحابها قدرتهم على إنجاز مشروع وحدوي عربي بينما فشلت شعاراتهم في توحيد نظامين قوميين كلاهما يتبنى الفكرة البعثية .


رياح التغيير


وعلى امتداد النصف الثاني من القرن العشرين كانت التقنية تعقد زواجا بين السياسة والاقتصاد والإعلام والاجتماع ، فأدت أوضاع اقتصادية إلى هجرة عرب إلى بلاد غير عربية حيث عاشوا وتأثروا ثقافيا وقدوم غير عرب إلى بلاد عربية فأثروا في ثقافات مجتمعاتها ، وحتى من لم يخض تجربة الاحتكاك المباشر بغير العرب جاءت إليه على موجات البث الفضائي المباشر في طوفان هادر ثقافات الآخرين .
وبين كل ما واجهت العروبة في النصف الثاني من القرن العشرين من تحديات تنفرد حرب الخليج الثانية بأهمية خاصة ، فبعدها سادت حالة من الإحساس بأن العروبة تتهددها مخاطر حقيقية ، وهو ما انعكس في سيل من الكتابات والممارسات السياسية كان محورها وضع العروبة موضع التساؤل . غير أن الأحداث تداعت بسرعة ودرامية لم يتوقعها أحد ، فخلال عقد واحد صار هناك ملفات مفتوحة من المحيط إلى الخليج : البربر في المغرب العربي ، والمسيحيون في جنوب السودان ، الأكراد في العراق . ورغم أن قضية جنوب السودان تتوالى فصولها منذ الخمسينات ، أي بعد نشأة الكيان الصهيوني بسنوات محدودة ، إلى أن طبيعة المشروع السياسي المستهدف لم تتضح معالمه إلا مؤخرا عندما بدأت حركة التمرد تجد ظهيرا إقليميا قويا هو " الحركة الأفريقانية " .
و الحركة الأفريقانية حركة قومية متطرفة يتزعمها حاليا الرئيس الأوغندي يوري موسيفيني وهو يرفع شعار " دولة مصد في جنوب السودان تواجه النزعة التوسعية الأصولية العربية " . أما الهدف البعيد للحركة فهو طرد العرب الغزاة من شمال أفريقيا ليعودوا من حيث جاءوا . وقد كانت مثل هذه الدعوات تستقبل بقدر كبير من عدم الاهتمام غير أن ما وصلت إليه حركة التمرد في جنوب السودان من نجاحات جعلتها تسيطر عل مساحة تساوي مساحة ألمانيا الغربية ( سابقا ) ، وانتقل شعارات الحركة الأفريقانية من على لسان موري يوسيفيني إلى بربر المغرب الذين تظاهروا في مايو 2002 الماضي رافعين شعارات طرد العرب من شمال أفريقيا . وللمرة الأولى في تاريخ المغرب الحديث يتوجه الملك إلى القوات المسلحة داعيا إياها إلى الحفاظ على وحدة البلاد ، الأمر الذي يعني أن الوحدة على المستوى الثقافي تتهددها مخاطر حقيقية .
فهل جاء خريف العروبة ؟ أم أننا أمام حاجة ماسة لخطاب عربي جديد يؤكد الثوابت وينفي عن العروبة كتيار سياسي و الثقافة العربية ما بدا أنه ميل لاستبعاد أم فرز للصفوف على عرقي ، ويطمئن المخالفين إلى أن السياسات المفتقرة إلى العدالة والديمقراطية التي انتهجتها بعض الأنظمة السياسية القومية العربية ليست نتيجة سمات أساسية في بنية الفكرة .


دروس عراقية أخرى


ولقد حفل الملف العراقي هو الآخر بدروس بعضها مؤلم وكلها جدير بالتوقف عنده ، ففي منتصف إبريل 2002 شهدت مدينة " أربيل " العراقية ذات الأغلبية الكردية مؤتمرا لإحياء ذكرى شهداء عمليات " الأنفال " التي نفذها الجيش العراقي في المنطقة الكردية عامي 1987 و 1988 والأعوام التالية وراح ضحيتها أكثر من 180 ألف مدني بعضهم قضى نحبه بالأسلحة الكيماوية في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ العرب الحديث . المؤتمر ، أيضا يعد الأول من نوعه حول هذا الموضوع منذ خروج المنطقة الكردية عن سيطرة الحكومة العراقية عام 1991 فهو سابقة تاريخي بأكثر من معنى . وهو يأتي متزامنا – تقريبا – مع قرار الحكومة الجزائرية الاعتراف باللغة البربرية ( الأمازيغية ) لغة رسمية ، والمؤتمر والقرار كلاهما مؤشران لتحولات خطيرة ثقافية وسياسية تشهدها المنطقة العربية وتهدد العروبة بمخاطر جسيمة .


وقفة مع الاسم والهدف


وأول ما يلفت النظر في قضية حملة " الأنفال " ذلك التجرؤ الشديد على رمز إسلامي له مدلولاته بإطلاق اسمه على عملية عسكرية تقوم بها دولة ضد مجموعة سكانية من مواطنيها الأمر الذي يعكس استهانة شديدة بالرموز الدينية والمشاعر الدينية معا ، وهو فضلا عن ذلك يوفر للإعلام الغربي مادة دسمة يستخدمها للنيل من الإسلام دينا وحضارة ومن الشعوب الإسلامية التي يصورها في صورة وحوش دموية يقتلون مخالفيهم دون سبب . ومثل هذه السلوكيات الرسمية أعمق أثرا بكثير من محاولات تصحيح صورة الإسلام . والمفارقة أن هذا يحدث في الوقت الذي ترتفع فيه الأصوات بالشكوى من أن الحركات الإسلامية تخلط الدين بالسياسة وتستخدم رموزه لتحقيق مكاسب سياسية !!
ولا يتوقف أثر مثل هذا المؤتمر - حتى بعد زوال النظام العراقي - على صورة العالم العربي في مناخ دولي يكاد يكون غير مسبوق من حيث درجة التحامل على كل ما هو عربي في الدوائر الإعلامية والرسمية الغربية على السواء ، بل يعد إلى جانب ذلك – وربما قبل ذلك – نقطة سوداء في تاريخ العلاقات العربية الكردية ، وهي التي كانت حتى وقت قريب نموذجا للتعايش والتفاعل الخلاق . ولا حاجة في هذا المقام إلى أن نلفت النظر إلى ما يجنيه الكيان الصهيوني من مكاسب نتيجة وجود مثل هذه الثغرات ، والمثال الكردي بالذات يؤكد هذه الحقيقة .


هل هما عروبتان ؟


إن النظام الرسمي العربي الذي نشأ عقب الحرب العالمية الثانية ورث خريطة حافلة بالتعدد العرقي والمذهبي ، ورغم الدور الكبير الذي لعبته الثقافة العربية في إضفاء وحدة ثقافية حقيقية تمنع الاختلافات المشار إليها آنفا من أن تتحول إلى عوامل تفرقة ، اتسعت لكل ألوان الطيف العرقية والدينية ، فعروبة الثقافة جمعت العرب والأكراد والبربر كما جمعت المسلمين والمسيحيين .
ومنذ الفتح العربي الإسلامي تكاد المنطقة العربية لا تعرف ظاهرة إبادة الأقليات أو اضطهادها ، قد تنحرف الممارسات بدرجة أو أخرى لكن الانحراف يظل استثناء من قاعدة ، فلم يعرف الفكر العربي في أي من مراحله ظهور فكرة الاستئصال أو الطرد الجماعي أو نفي الأقليات داخل " جيتو " حقيقي أو معنوي . وظلت هذه الممارسات لصيقة بتاريخ الدولة القومية الغربية ، لكن من المفارقات المثيرة للدهشة أن من استورد نموذج الدولة القومية من الغرب وفرضه على الواقع الثقافي والسياسي العربي كان النخب العسكرية التي وصلت للحكم لتخلص شعوبها من الاحتلال العسكري الغربي ، فإذا بها تطرد الاحتلال العسكري وتؤسس بنفسها لحالة التبعية الثقافية ، دون أن تشعر أن ذلك ينتقص سيادتها واستقلالها .
وقد رصد المفكر الإسلامي المرموق الدكتور على الأمين المزروعي جانبا من هذه الحقيقة الناصعة ، ففي محاضرة قيمة ألقاها في المجمع الثقافي بأبي ظبي حملت عنوان " الإسلام والديمقراطية الغربية والثورة الصناعية الثالثة : صراع أم التقاء " ، يقول : " عادة ما يتم نقد المسلمين بسبب عدم وصولهم إلى الأفضل ، ولكن قلما يهنؤن على ما لديهم من معايير أخلاقية جنبت وقوع الأسوأ . فلم يعرف الإسلام مثيلا لمعسكرات الإبادة النازية المنظمة .... هل التوحيد درع تحول دون الفساد والفسوق البشري في أوسع صوره ؟ " ويركز المزروعي على الإسلام كمانع من " حدوث الأسوأ ". لكن حقبة الصعود القومي حفلت بالكثير مما كان يعد محرمات أخلاقية وسياسية ، فإذا كان الإسلام قد منع من شيوع " الأسوأ " فإن العروبيين اقترفوه .


القوميون ومسئوليتهم التاريخية


وحالة الإحياء القومي التي شهدتها المنطقة العربية في أعقاب الحرب العالمية الثانية ، وبخاصة عندما ترجمت نفسها في ظهور أنظمة حكم رفعت الراية القومية ، شهدت حدوث تشققات في العلاقة بين العرب وغير العرب تفاوتت حدتها من مكان لآخر في الخارطة العربية . وهذه الأنظمة القومية التي تعد الطبيعة العسكرية لنخبتها وبنيتها القاسم المشترك بينها ، اتسمت ممارساتها السياسية بعنف فكري وفعلي قام إلى حد كبير على تهميش الآخر وصولا إلى نفيه وتخوينه ومن ثم استباحته ، الأمر الذي أدى إلى دخولها صراعات مريرة داخل دولها ثم امتدت هذه الصراعات لتصبح صراعات قومية / قومية .
إن كل من له أدنى معرفة بتاريخ الأمة العربية يعرف أن العروبة ليست عرقا بل ثقافة وأن المجموعات السكانية التي يطلق عليها الآن " الأمة العربية " تكونت من روافد : عربية وفرعونية ، وبربرية ، وأفريقية ، وأسيوية ، وأخلاط أخرى رحلت إلى أرض العرب أو وصلت إليهم العروبة ، ورغم ذلك فإن بعض القوميين العرب أرادوا أن يحولوا العروبة من " إطار جامع " إلى " سياج مانع " . وهو ما حدث بدرجات متفاوتة في الجزائر والعراق وغيرهما ، وقد أفرز في الأولى حالة استنفار ثقافي وقومي توشك أن تدفع عروبة الجزائر للتآكل ، بينما ترك في حالة العراق جراحا غائرة كان الجميع في غنى عنها .


خارطة الكراهية


وقد أصبحت ظاهرة كراهية العرب أكبر مما يظن كثيرون بفعل تحولات تاريخية وممارسات سياسية رسمية وغير رسمية ، ففي أسيا الوسطى تشيع حاليا نغمة أن العرب جلبوا البلاء للمنطقة بسبب الهجوم الأمريكي على أفغانستان وتداعياته ، وفي قلب أفريقيا توجد " الحركة الأفريقانية " التي سبقت الإشارة إليها ، والآن تمتد خارطة الكراهية إلى داخل الوطن العربي .
وعلى التيار القومي العربي بمختلف فصائله تقع مسئولية وضع الأمور في نصابها ورأب هذا الصدع الذي تتجاوز آثاره حدود هذه الدول والمصالح المباشرة لهذه الأنظمة السياسية . ومخططات النيل من وحدة أراضي أية دولة عربية إنما يمر من مثل هذه المسالك ، وإذا أصبحت الأقليات بين خيارين أحدهما أن تبقى بين أغلبية عربية لا تمنحها من حقوقها السياسية إلا القليل – بل أحيانا ترتكب بحقها جرائم إبادة – وبين أن تحطم وحدة الدولة لتؤسس دولتها الخاصة فإنها تصبح بين خيارين أحلاهما مر . وهنا تأتي مسئولية القوميين العرب ، وبخاصة من لا يشغلون منهم مناصب رسمية قد تفرض عليهم مواءمات معينة . فهؤلاء ينظر إليهم بوصفهم ضمير الأمة فيجب أن يخرجوا عن صمتهم قبل فوات الأوان ، وقبل أن تصبح العروبة في قاموس الأقليات " كلمة ملعونة " !!.


رهانات القوميين الخاسرة


ومما تشير إليه تجربة العراق أيضا أن النسبة الأكبر من القوميين العرب ما زالوا يراهنون رهانات خاسرة ، فمن السنن الكونية أن للأحداث والصراعات الكبرى دائما نتائج غير مباشرة لم يستهدفها أطراف الصراع بل ربما لم يفكروا فيها ابتداء ، وأحيانا تصبح النتائج غير المباشرة ( أو المستبعدة ) أكثر تأثيرا عندما ينطوي اختيار ما على قدر كبير من المغامرة ، فعندما تؤول المغامرة للفشل تبقى النتائج غير المباشرة وتحتل واجهة المشهد . وقد تكشفت حرب الخليج الثانية - كما أشرنا سابقا - عن نتائج لم يتوقعها أحد على صعيد موقف النخبة الثقافية في بلدان عربية عديدة من الخيار القومي بل من الفكرة القومية نفسها . وهو ما عبرت عنه أدبيات سياسية عديدة في النصف الأول من التسعينات بأنه " حالة مراجعة للعروبة " واستخدم آخرون أوصافا أكثر حدة وتشاؤما فتحدثوا عن " حالة كفر بالعروبة " ، وهو مشهد مرشح بقوة لأن يتكرر في عراق ما بعد صدام .
وعموما ، يعكس المشهد السياسي والثقافي العربي تراجعا حادا للفكر القومي والتيارات السياسية التي تحمله ، وبخاصة في منطقة الخليج العربي التي رأت في موقف الشريحة الأكبر من التيارات القومية إحياء لحالة من الاستقطاب بين شعوب الأمة ، وفي منطقة المغرب العربي التي اقترنت العروبة فيها بالإسلام وبالتالي تأثرت سلبا بأجواء الاحتقان السياسي وبخاصة في الجزائر . ولا شك في أن التحولات التي طرأت على الخطاب الرسمي الليبي الذي كان انعكاسا لحالة تنصل جزئي أو كلي من العروبة شكل خصما من رصيد التيارات القومية التي ما زالت في مجملها تتوجه صوب الأنظمة لا صوب الشعوب .
ويعكس هذا الرهان إشكاليات عدة يواجهها الفكر القومي والتيار القومي في مقدمتها تفضيل الرهان على الأنظمة ، وهو ما يضع القوميين كثيرا في تناقض مع الشعوب التي تدعي الحديث باسمها . ثانيها أنه يشكك في مصداقية ما يروجه القوميون عن أنهم قاموا بمراجعة تجارب الأنظمة القومية خلال العقود الأربعة الماضية وأنهم يعتبرون غياب الديمقراطية خطأ من أهم أخطاء هذه الأنظمة ولا يجوز تكراره ، وإذا بهم عند أول اختبار حقيقي ينحازون ضد حرية الشعوب .
وعلى مستوى العلاقة مع التيارات السياسية الأخرى يبني هذا الموقف وأمثاله مزيدا من الأسوار بينهم وبين التيار الليبرالي الذي يقف على طرف النقيض من موقفهم ، بل إن موقفهم من الديمقراطية جعل التناقض بينهم وبين الليبراليين أعمق من التناقض بين الليبراليين والماركسيين . وعلى إيقاع طبول الحرب الدائمة مع " الآخر " الغربي والصهيوني يزداد القوميون بعدا عن الديمقراطية ، كشرط يتوهمون أنه لازم للقدرة على مواجهة التحديات . وتلك بذرة الرهانات القومية الخاسرة وأول أسباب الأزمة التي تعصف بالعروبة والعروبيين .

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية