لقد ألحت عليّ كثيراً تلك القضية في هذه الأيام التاريخية التي تمر بها الأمة فيما يتعلق بالأزمة اللبنانية وعلى هامشها غير الموفق الإعلان عن المباحثات السورية-الإسرائيلية في تركيا، والذي لا أظن أنه فاجأ أحداً إلا من لم يكن لديه أي إطلاع على الأوضاع الحقيقية للسياسات السورية منذ أربعين عاماً!
وعلى الهامش الناجح لتحييد المسيحيين أنفسهم، وتهميش الفلسطينيين المقصود وغير المفهوم في لبنان في هذه الأزمة، فإن السؤال الذي يجب أن نطرحه جميعا على أنفسنا: ما هي العلاقة الحقيقية بين ما جرى في نهر البارد ودور الجيش اللبناني في حينه وبين اقتحام حزب الله لبيروت بعد ذلك؟ ومن ثمّ هذا الذي حصل من إقحام محادثات السلام السورية-الإسرائيلية على الجدل اللبناني العربي الدائر فيما يتعلق بـ «المقاومة»، في وقت أجمعت فيه الدول العربية على نزع فتيل الفتنة التي رغب البعض في تأجيجها في لبنان، لكن أسقط في يده عندما وجد نفسه وحيداً على أرض المعركة «الخطأ» في مواجهة مواطنيه وأهله الذين قرروا أن لا يردوا على استفزازاته، لأن سلاحه هو سلاح المقاومة ولا يجب أن يستعمل في غيرها!
أسئلة ملحة وهامة تلك التي يجب أن نطرحها جميعا اليوم ونحن نعيش هذه الأيام الطيبة –نسبياً- والتي استطاع فيها «العرب» أن يُحدثوا منعطفاً في سياساتهم العربية الموحدة، وفي طريقة تعاملهم مع الأحداث الخطيرة في المنطقة، وهي ليست بالأحداث السهلة ولا البسيطة، خاصة في ظل التدخلات الأجنبية الواسعة النطاق في كل كبيرة وصغيرة. وربما كان هذا هو السبب الرئيس الذي أولى اللجنة الوزارية العربية والوساطة القطرية وجامعة الدول العربية هذه الأهمية الاستثنائية لما قاموا به جميعا من جهود غير عادية لحل الأزمة الراهنة في لبنان.
المُراجع لقضية «فتح الإسلام» تلك يشعر بالغثيان وهو يشتّم من خلالها روائح الخيانة والمؤامرات والاختراق، والأصابع التي تحرك شباب الأمة من حيث يدرون ولا يدرون كدُمى تستثيرها الدعوات الطائفية من خلال ذلك «الجهاد الكمبيوتري» الرخيص الخطير الذي ينخرط فيه اليوم كل فارغ تافه. لكن المصيبة تكون أكبر عندما يتورط «الصادقون» من هؤلاء في حماقة ما بعدها حماقة، ويتداعون إلى ساحات قتال خاطئة في معارك ليست معاركهم ليقتلوا ويُقتلوا تحت راياتٍ غبية ولأهداف أكثر غباء! ليس إلا التفكير في تلك الحركة بالغة الصفاقة والإجرام -بحق لبنان وبحق أهل المخيم- والتي قام بها هؤلاء «الحمقى» في اعتدائهم المجاني على الجيش اللبناني والتوقيت الغريب لذلك الاعتداء وما نتج عنه، دون أن ننسى أن الحمق هو قلة العقل وسوء التصرف!
لا نقبل نظرية المؤامرة، لكنها وللأسف تتأكد يوماً بعد يوم في كل ما يجري على الساحة اللبنانية، والتي تمثل بكل صدق وشفافية أوضاع الأمة التي تسمح بمرور المؤامرات! لابد من البحث الحثيث فيما جرى في ذلك المخيم الفلسطيني الذي استعمله أولئك «الحمقى» -ومن يقف وراءهم من غير الحمقى!- غطاء اجتماعيا وأمنيا لتنظيمهم الذي تقف وراءه جهات لا تستحيي من التاريخ ولا من الإنسان ولا من سقوط كل أقنعتها ولا من افتضاح أمرها، ومافتئت توزع الخراب والدمار والموت والخوف في المنطقة، وأفظع من ذلك كله أن تستمر في هذه السياسات الخرقاء وباسم القضية!
فرحة اللبنانيين في انفتاح كوة للأمل في بلدهم اليوم لا تقل عن فرحة كل سكان المنطقة العربية بإطفاء نيرانٍ كان من المقرر لها أن تشعل المنطقة كلها لتتركها لقمة سائغة لسياسات «الفوضى الخلاقة» التي لن ينتج عنها أي خير. لكن هذه الفرحة لا يجب أن تعمينا عن الحقائق المريرة التي يعيشها لبنان، لا بسبب وضعه الطائفي، ولكن بسبب استعماله ساحة اختبارات متواصلة لكل السياسات العربية والأجنبية الحالية والمستقبلية في المنطقة.
تعايش مختلف الرسالات السماوية والطوائف والمذاهب أمر إنساني وقومي ووطني وديني مطلوب بإلحاح، لكنه لم يكن قط مستحيلاً إلا في ظل أجواء تستغل الخلافات الدينية والطائفية لمصلحة قوى تريد أن تمد سيطرتها من خلال إشاعة الفوضى. سبعة عشر عاما من الحرب الأهلية البشعة الأليمة في لبنان لم تصبّ في مصلحة أحد من أهل لبنان، ولم تخدم إلا شركات تصنيع وبيع الأسلحة العالمية والعدو الإسرائيلي «الشقيق»، لكن إلى حين، لأنها وإن نجحت في إخراج المقاومة الفلسطينية من لبنان، وفسح المجال لخطوة جديدة على طريق «الحل الشامل»، فإنها لم تستطع أن تسكت صوت المقاومة في النفوس، فنقلت ساحة المعركة إلى الداخل الفلسطيني، وولدت حركة مقاومة لبنانية جديدة في لبنان نفسه.
في لبنان اقتتل الأخوة، وذبح الأحباب بعضهم بعضا، واقتلع الجيران عيون جيرانهم واغتصبوا أبناءهم تحت سمع وبصر عالم جلس يتفرج على ما كان يجري خلال سبعة عشر عاما. وعلينا اليوم أن نعيد استذكار تلك الويلات بدأب لعلنا لا نقع في تلك الهاوية من جديد.
لبنان اليوم في قلب الأمة وتفكيرها واهتمامها، لأنه ووقفٌ على ما سيجري فيه يمكننا الحديث عما سيجري في العراق وفلسطين. إنها حلقات متصلة تستوثق إحداها بالأخرى إلى درجة الموت والحياة.
كل ما يجري في لبنان على صلة وثيقة بما جرى في العراق، وبما يعيشه الفلسطينيون في أرضهم المغتصبة، وما ستعيشه المنطقة، وما يسميه الآخرون «الحل الشامل» الذي استغرق ستين عاما للوصول اليوم إلى ما وصل إليه: لا شيء!
الذي لا يعرفه ولا يدركه «الآخرون» هو أن هذا «الحل الشامل» لا يستطيع أن يمر بحال من الأحوال عبر ثقوب إبر مغروسة في العيون. يمكن أن يقوم الجميع بمسرحيات تهريجية حول مباحثات عن السلام الخانع الخاضع المستسلم، يمكن أن تتدخل كل القوى الإقليمية -كما يسمونها- في محاولات لتحرير الأرض المغتصبة، يمكن للجميع أن يستخدموا لبنان حقلاً لتجاربهم لسبر قدرة هذه الأمة على الصبر، وقدرة زعاماتها على الفعل، وقدرة أبنائها على التحرك في هذا الاتجاه أو ذاك، يمكن للعدو الغاصب أن يصبح صديقاً حتى حين، ويمكن لكل الأعداء الألداء أن يجلسوا إلى مناضد المفاوضات ليتحدثوا عن السلام والحلول الشاملة بينما يمضون قدماً في عمليات الذبح والهدم واستئصال الحياة من عروق المظلومين، يمكن للقوى المتناحرة أن تحتكم إلى «هدنة» تضع فيها الحروب أوزارها لترتاح جميع الأطراف حتى حين، لكن الذي لا يريد «الآخرون» أن يفهموه هو أن حق الأمة في فلسطين لن تتنازل عنه أبداً، ولن تتوقف المقاومة في سبيله أبداً، وأن لبنان ومعها العراق وكل الساحات العربية التي تعاني من غزوات عسكرية خارجية مباشرة أو نفسية وإعلامية واقتصادية وقمعية واستبدادية داخلية لا تقل في مجموعها عما يعانيه لبنان والعراق وفلسطين معاً.
سيبقى لبنان بصموده في وجه كل تلك المؤامرات الخارجية والداخلية ساحة للمقاومة الحقيقية، مقاومة شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا أولاً، كما سيبقى ساحة حقيقية لاختبار قدرة هذه الأمة على النهوض والقيام والمضي يقيناً وصبراً نحو مستقبل قريب يراه الجميع جدّ بعيد.