هذه الحالة الفلسطينية التي يعيشها الفلسطينيون بين «فتح» و «حماس» تمثل أبلغ صور التعبير عن حال الأمة وما غرقت فيه من تشرذم وشقاق وانتكاس وارتكاس. لقد كانت فلسطين وما زالت وستبقى بكل ما يجري فيها، سياسيا واجتماعيا وإنسانيا، المسرح الذي يقدم صورة حقيقية صادقة عن أوضاع الأمة من المحيط إلى الخليج.. هذا العنف الإنساني الذي يبلغ حدّ الإجرام قسوةً، وهذه المبالغة في رفض الآخر والتي تبلغ حدّ إهدار الدم، وهذا العناد الخطير الذي بلغ حدّ تدمير كل المكاسب التي كان قد حققها الفلسطينيون جميعاً بدمائهم وأشلائهم وآلامهم ومعاناتهم وقهرهم وصمودهم مئة عام.

 


«فتح» و «حماس» ليستا مجرد منظمتين فلسطينيتين مجاهدتين ضد الاحتلال الإسرائيلي، ولا حركتي كفاح مسلح وسياسي فقط، إنهما هيكلان سياسيان عسكريان اجتماعيان فكريان يمثلان التيارين الضخمين اللذين يسودان اليوم مختلف القطاعات في المنطقة العربية، وتصارُع حماس وفتح لا يخرج عن كونه الإرهاص الدقيق لما يمكن أن تسقط فيه المنطقة العربية كلها من حالة اقتتال داخلي بين «الإسلاميين بمختلف اتجاهاتهم» و «غير الإسلاميين على شتى مذاهبهم»، عندما يصل الطرفان إلى الجدار! ليس جدار العزل الإسرائيلي، ولكن جدار حماقاتنا الإنسانية المبالغة في الصفاقة الأخلاقية السياسية التي ترفض تماما لغة الحوار! ولا ترفضها فحسب، بل الأدهى هو العجز عن التعامل أصلاً مع آليات الحوار!

لا يمكننا على ضوء المتغيرات الكثيرة المتلاحقة التي تشهدها المنطقة العربية اليوم في المجالين الفكري والاجتماعي، على هامش تكثيف الغزو العسكري والثقافي الذي اكتنف الأمة تحت عنوان «مكافحة الإرهاب»، لا يمكننا الحديث عن استمرار «المشروع القومي» الذي تمتّع بزخم إنساني وفكري هائل منذ نكسة يونيو، لأن القناعات القومية انهارت جملة وتفصيلاً تحت زلزلة الواقع، بدءا بغزو الكويت وانتهاء بالمفاوضات السورية- الإسرائيلية برعاية تركية اليوم. آيات جلية تتبع كل واحدة منها الأخرى ولا تضل عنها، حلقات متصلة من الهزائم الفكرية والعقيدية، والفضائح التي مُنيت بها «التجليات» السياسية والإنسانية للفكر القومي في المنطقة، خاصة ما تعلق بالفشل السياسي للمشروع القومي الذي لم يستطع أن يوفر للإنسان في المنطقة العربية الحرية ولا الكرامة ولا الأمن، كما لم يستطع أن يقدم «للقضية» إلا سلسلة من الخيانات والانبطاحات وبشكل مدوٍّ فضح تلك الغربة الموهومة بين الأنظمة والشعوب!

لم تكن الأنظمة التي قامت تحت شعارات لامعة «قومية»، واستخدمت أقبح أنواع القمع الدموي مع شعوبها إلا الإفرازات الطبيعية لطبيعة العلاقات الإنسانية بين أفراد تلك المجتمعات، ولم يكن استبدادها بشعوبها إلا المرآة الصادقة التي تعكس الحالة الإنسانية المزرية التي تعيشها هذه الشعوب.

انهيار الفكر القومي في المنطقة العربية لا يتمثل في انهيار مصداقية الأنظمة التي ركبت موجة «القضية» تحت شعارات القومية لخدمة أهداف شخصية وطائفية، كما لم يتم تحت وطأة استيقاظ نعرات مختلف القوميات والأعراق والطوائف بدعم من الغرب و «غباء» من أبنائها فحسب، ولكنه كان عن طريق التآكل الذاتي لمشروعٍ استخدم السلاح والإعلام لفرض فكرٍ لم يكن له أن يستمر في منطقة محكومة بظروف تاريخية استثنائية لم يأخذها أصحاب الفكر القومي «العربي» بعين الاعتبار يوم استنسخوا هذا الفكر من الأحزاب القومية الأوروبية، ولا يوم استخدموا جميع وسائل الاستئصال الوحشي مع «الآخر» من بني جلدتهم.

أما «المشروع» الإسلامي فقد بعث بقوة من جديد على أصوات الثكالى والأيامى والأطفال المغتصبين بأيدي الصرب في «البوسنة والهرسك». وقد منحته انتصارات «المجاهدين» -في حينه- في أفغانستان الرئة اللازمة ليتنفس من خلالها. وبعد خمسين عاما من الصراع الدموي مع الحكومات «القومية» في المنطقة، تمثل في صحوة عامة شملت الأمة كلها رغم كل وسائل الصدّ الإجرامي التي استعملها أصحاب «الكراسي» للقضاء عليه وبكل وسيلة ممكنة -قبل الصحوة وبعدها- ولكنهم ورغم القضاء على أجيال كاملة من القيادات الفكرية والسياسية الإسلامية لم يستطيعوا القضاء على هذا الفكر ولا هذا «المشروع» الذي أخطأ خطأً تاريخياً لا يُغتفر في توجهه مباشرة نحو «كراسي الحكم»، في محاولة فاشلة للانتقام للظلم التاريخي الذي لحق بأصحابه، وفي محاولة يائسة لفرض هذا «المشروع» على المواطنين أولا، وعلى العالم ثانيا بالقوة! نتيجة فهم أخرق للإنسان والمنطقة والتاريخ والإسلام نفسه!

لقد استخدم الإسلاميون قوة إيمان شعوب المنطقة العربية في مواجهة قوة السلاح المخابراتي الطاغي ضدهم، واستخدموا كل الأساليب التي وفَّرها العصر، بدءاً بشريط الكاسيت وانتهاء بالإنترنت، لنشر فكرهم و «مشروعهم» الذي لا يمكن أن نطلق عليه في المنطقة العربية كلمة «مشروع» إلا تجاوزاً! واستطاعت هذه الوسائل البسيطة أن تكون أكثر ثباتا من وسائل «القوميين» في الحكم، وهي السلاح والإعلام والتعليم.

لكن الإسلاميين كالقوميين لم يخرجوا عن كونهم أبناء هذه المنطقة التي يُعتبر فيها الحوار عاراً والعنف طريقة حياة! قاموا بمخالفة كل قوانين الطبيعة البشرية والاجتماعية بمحاولاتهم المتتالية الفاشلة للوصول إلى الحكم بدلاً من الوصول إلى عقول الناس الذين كانوا يتشوقون إلى مشروع يرد القضية الفلسطينية إلى محضنها الأساس، فانتشرت الصحوة الإسلامية بشكل أفقي بالغ الخطورة، لأنها افتقرت إلى «مشروع» سياسي فكري اجتماعي إنساني واضح، وكانت ومازالت تفتقر إلى القيادات التاريخية الفاعلة.

ولادة الانتفاضة الفلسطينية الأخيرة بين القرنين، ضمن إرهاصات هذه الصحوة الإسلامية التي عمّت العالم، كانت علامة تاريخية فارقة في تاريخ «المشروعين» الإسلامي والقومي في المنطقة العربية، واللذين وجد العقلاء من كليهما أنه لا حلّ لهما وبهما ومعهما إلا بالتزاوج والتلاقح والتفاهم والحوار. وقد وُلدت منتديات لا همّ لها إلا الجمع بين التيارين، إلا أن القوى السياسية والإعلامية لم تقُم بالترويج اللازم لهذا «المشروع» الوليد الوحيد القادر اليوم على انتشال المنطقة من هذا السقوط «الرنان» الذي تعانيه، والذي لا يختلف فيه ولا عليه اثنان من أصحاب الفكر والرأي، الأمر الذي جعل الشارع العربي يعيش حالة من الضياع والتخبط، والأخطر من ذلك أنه ما زال يعيش زخم الإعلام القومي بشقي أطروحاته: المهمة منها والسخيفة، إضافة إلى قطاعات واسعة من الجماهير التي تبنت ظاهر ما يدعو إليه «المشروع» الإسلامي المعاصر الذي وصل إعلاميا وفكريا اليوم إلى آخر طريقه. ولا يجب أن ننسى الشباب من الذين انساقوا وراء فكر «القاعدة» الجهادي قبل أن ينحرف هذا الفكر ليتمثل في أفعال إجرامية تخبط خبط عشواء في سفك الدماء، وما ترتب على هذا الانحراف من ضياع للرؤية لدى شرائح لا يستهان بها من الشبيبة في المنطقة، ومن الجاليات المسلمة المقيمة في الغرب.

إن ما تمخض عن هذا المشهد لا يمكن أن يتمثل بشكله الأوضح و «الأكمل» بمثل ما تمخضت عنه الحالة الفلسطينية التي نشهدها اليوم: اقتتال الإخوة وسفك دمائهم فيما بينهم، وداحس والغبراء التي استيقظت فينا بعد انقضاء ألف وخمسمئة عام على اندحارها، العجز عن الحوار واستيعاب الآخر، استحالة الاعتراف بالخطأ، والفشل في أضعف الإيمان وهو هنا الانسحاب والاستقالة والاعتزال!

إن الشيخ الشهيد «أحمد ياسين» لم تقتله تلك الأباتشية أميركية الصنع في ذلك الفجر بصاروخ إسرائيلي، ولكن قتله أهله وأتباعه من «فتح» و «حماس» وهم يذبحون ويعذبون بعضهم بعضاً، حرصاً على كراسي حكم محاصرة تحت حراب عدو مستوطن! تركهما يقتتلان من أجل سلطة وهمية، وجلس يتنفس الصعداء وهو يقدم المساعدات الإنسانية لضحاياهما على مذبح حماقتهما التي ستدخل التاريخ على أنها الحماقة منقطعة النظير التي أودت بمصداقية أكثر القضايا المصيرية مصداقية في العالم.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية