تنادي بعض الأنظمة العربية منذ سنوات بإعلان الشرق الأوسط منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل وهي الدعوة التي طالب البعض بتفعيلها عقب زوال النظام الفاشي في العراق ، كما حاول النظام السوري الاستناد إليها في مواجهة الضغوط الأمريكية كواحد من الاستحقاقات التي تبدو مترتبة منطقيا على زوال " الصديق اللدود " الذي قاسم النظام العراقي لسنوات ادعاءاته وجرائمه . ورغم أن للدعوة الرسمية العربية وجاهتها فإنها تأتي في سياق السعي لإنقاذ أنظمة الحكم العربية المهددة من الداخل والخارج على السواء لا في سياق إنقاذ مستقبل الأمة المهدد بالاستبداد ، ولو أنصفنا لاعتبرناه أحد أسلحة الدمار الشامل . وإذا كانت خيارات الأنظمة ومصالحها تدفعها للدعوة لإخلاء الشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل ، فإن على المثقفين العرب أن يدركوا أن مستقبل الأمة بات مرهونا بإخلائها من الاستبداد السياسي . وفي مناخ يحفل بدعوات مراجعة القناعات والممارسات التي جرت علينا جميعا سلسلة من الكوارث ليست أولاها الكارثة العراقية ، فإن التركيز المبالغ فيه على تهديدات الخارج وإغفال التحديات الداخلية - كما تعكسه الدعوة للتخلص من أسلحة الدمار الشامل - يعني عقودا أخرى من القهر والفساد والإفساد نقضيها متمتعين بالعفو والعافية ونحن ننتظر اليوم السعيد الذي ينـزاح فيه عن صدورنا كابوس هذه الأسلحة .
وبينما يطير عمرو موسى شرقا في وغربا يبحث تطوير الجامعة العربية ومستقبل النظام الرسمي العربي تبدو مساعي التطوير كما لو كانت سرا حربيا يجتهدون في إخفائه حتى لا يتسرب لهذا الضيف الثقيل الذي يسمى " الشعوب العربية " . وتتناثر الشذرات والتسريبات عن مشروعات للتطوير دون أن نسمع كلمة واحدة عن مشروع يخفف حالة الاحتقان السياسي العربي ، رغم أنها أحد أهم الأسباب التي أدخلت النظام العراقي النفق المظلم الذي كتب نهايته ، ولا نجد دورا عظيما أو حقيرا للشعوب العربية في صياغة مشاريع التطوير فلا الأحزاب ولا التيارات السياسية ولا منظمات المجتمع المدني مدعوة لوليمة التطوير .
والمنشور عن المداولات الدائرة - وهو قليل جدا - يبدأ بالاقتصاد وينتهي بالأمن ولا يقترب من السياسة . وعلى هذا تبدو الجامعة كما لو كانت قبل التطوير وبعده مجرد نادي للدردشة الرسمية - زي كلوب محمد علي لا مؤاخذة - مكان يليق بمكانة الحكام العرب ، وفيه يمكنهم الدردشة أو تبادل الشتائم ( على الهواء طبعا ) ، ولا مانع شأن كلوب محمد علي أن تعقد على هامش الدردشة صفقات وتتبادل مصالح ، وهي غالبا مصالح أمنية .
ومن المفارقات العربية الخالصة أن كل مجالس العمل العربي المشترك ميتة بالسكتة القلبية باستثناء مجلس وزراء الداخلية العرب ، فاجتماعاته منتظمة ومقرراته محترمة ، وكل " الأصدقاء الألداء " يجتمعون على مائدته كالنجوم المتلألئة فتتقارب وجهات النظر وتنجح مشروعات التعاون وتزدهر علاقات تبادل المنافع ، ما يعني أن العمل العربي المشرك ليس مستحيلا بل غير مرغوب فيه ، وأن البناء الحقيقي لأجل المستقبل ليس على قائمة أولويات الأنظمة ولا الجامعة التي تفتقر للرؤية والأدوات والإرادة . فلماذا لا يكون مشروع المثقفين الوطنيين العرب للسنوات القادمة العمل لإعلان العالم العربي منطقة خالية من الاستبداد السياسي ؟
ويمكن اقتراح تصورات عامة لتطوير النظام الرسمي العربي منها :
وضع معايير محددة لعضوية أي مؤسسة إقليمية سواء كانت الجامعة أو غيرها كالتمثيل البرلماني .
اشتراط وجود دستور مكتوب لكل دولة ملكية كانت أو جمهورية .
تحديد أقصى مدة لتولي الرؤساء في النظام الجمهوري بمدتين غير قابلتين للتجديد .
النص بشكل واضح على رفض توريت المناصب السياسية في الدول ذات النظام الجمهوري .
إلزام الأنظمة الوراثية ( مملكة - إمارة - سلطنة ) بصيغة الملكية الدستورية .
إلزام كل الدول بضمانات حقيقية لاستقلال القضاء والفصل التام بين السلطات .
وضع شروط صارمة للاعتداد بأشكال انتخاب مجالس التمثيل ( البرلمان ) كالإشراف القضائي ووجوب منح القضاء الوطني في كل دولة حق الفصل في صحة عضوية المجالس النيابية .
ويشير الدرس العراقي أيضا لثغرات في البناء العربي تجب معالجتها دون تردد منها :
تمكين الأقليات
القضاء على السياسات التمييزية ( الاجتماعية - الاقتصادية - الثقافية ) .
إطلاق حرية العمل الاجتماعي المدني ( الأهلي )
إصدار قوانين لتنظيم القطاع الإعلامي على نحو يضمن حق مؤسساته غير المنقوص في الحصول على المعلومات وحقها في التعبير .
ولأهمية قضية العدالة الاجتماعية يمكن التفكير في ضمانات لتحقيقها مثل :
حصول كل مواطن عربي على نصيب نقدي عادل من الدخل القومي لدولته .
تحديد حد أقصى للعلاقة بين أعلى دخل يحصل موطن من الدولة وأقل دخل يحصل عليه أي عامل بأي من أجهزة الدولة ( النسبة في نيوزلندا 18 ضعفا ) .
وضع سقف للإنفاق السيادي لا يجوز أن يتجاوزه ( 15 - 25 ) ، مع وضع ضوابط صارمة للشفافية المالية .
ولكون الأيدي المرتعشة لا تستطيع أن تحدث تغييرا حقيقيا نعتقد أننا في حاجة لإحداث تغييرات بنيوية في بنية الدولة العربية بشكل يعزز قيمة الحرية والمشاركة ويزيل الحواجز التي تعيق تجذر الحريات ، وفي مقدمتها :
ضوابط صارمة لعمل الأجهزة الأمنية وبخاصة أجهزة الأمن السياسي لمنعها من التغول ، ورفع شعار " لا حرية دون صناديق زجاجية ومخافر زجاجية " .
حظر اللجوء للقوانين الاستثنائية إلا في حالات الضرورة الحقيقية ، ويجب النص عليها بشكل واضح وجعل إعلانها واستمرارها منوطا بموافقة مجلس تمثيلي ( نيابي ) منتخب .
اعتبار انتهاك الدستور جناية عقوبتها العزل والسجن .
حظر محاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية أو استثنائية .
تشديد عقوبة جريمة التعذيب لتتراوح بين السجن المؤبد والسجن لمدة طويلة لا تقل عن عشرين عاما ، وتشديد عقوبة القتل تحت التعذيب لتكون الإعدام أو السجن المؤبد
اعتبار الاشتراك في تزوير الانتخابات جناية لا تقل عقوبتها عن جناية التزوير في المحررات الرسمية على الأقل .
ففي ظل الصخب الممجوج للغوغائية والفاشية المتخفية خلف الديباجات القومية يراد للأمة أن تتوجه بمنطق القطيع إلى الهتاف ضد الغرب والفرار عند المواجهة الحقيقية على الطريقة الصحافية الصدامية ، والاصطفاف خلف الأنظمة القمعية التي يعلمون جيدا أنها ليست حصنا للشعوب بل سجن . والبحث عن أسباب الكوارث التي أصبحت سمة من سمات الواقع العربي في الخارج دون الداخل هو - في أغلبه - ليس خلافا في الرؤية بقدر ما هو تهرب من المسئولية الأخلاقية ، فتبرير " تسويق الاستبداد " باعتباره منهجا في العمل الوطني يجب احترامه من مخالفيه يغفل ، أولا :
أن مسوقي الاستبداد معظمهم أصحاب مصلحة لا أصحاب رؤية ، وهؤلاء أبعد خلق الله عن قبول الخلاف في الرأي وفي ترتيب الأولويات الوطنية ، وأن أكثرهم " صنايعية " في التكفير ، والتكفير في الوطنية لا يقل خطورة عن التكفير في الدين ، والتربة الصالحة لنموه هي الفكر الفاشي .
ثانيا : أن تسويق الاستبداد عمل غير مقبول أخلاقيا ، وبالتالي لا يجوز التساهل معه بوصفه ضمن الخيارات التي يمكن أن تشملها مظلة الوطنية ، ومن المساخر أن يكون هناك إجماع في قضية كالقضية الفلسطينية على أن حق عودة اللاجئين أحد الحقوق غير القابلة للتصرف وأن الدعوة للتنازل عنه خيانة للشعب الفلسطيني - وهو بالفعل كذلك - بينما لا تكون عندنا في المقابل قناعة راسخة بأن حق كل شعب عربي في أن يختار حاكمه ويحاسبه ويعزله إن أراد ، هو أيضا من الحقوق غير القابلة للتصرف ، فلا يجوز لمثقف أو سياسي أن يوقع لنظام سياسي تنازلا عن هذا الحق لضمان القدرة على مواجهة التحديات الخارجية .
ولعل المصير الذي آل إليه النظام العراقي يكون درسا للمثقفين العرب في أن التصالح مع الاستبداد السياسي خوفا من الاحتلال الأجنبي - وهو موقف القطاعات الأكبر من القوميين والماركسيين العرب على مدى ما يقرب من خمسة عقود وشرائح ما زالت محدودة من الإسلاميين مؤخرا - لم يمنع مجيء الاحتلال بل تسبب فيه ، فلو كان صدام حسين حاكما منتخبا ولو حكم في ظل دستور يضمن رقابة حقيقية على سلطاته ، ولو جاء للسلطة وهو يعلم أنه لن يبقى لأكثر من مدتين لما حدثت كارثة الحرب الإيرانية ولا جريمة احتلال الكويت ولما سالت دماء العراقيين أنهارا شيعة وسنة وأكرادا ، ومن المؤكد أن غياب الديمقراطية في العراقية أحد أهم أسباب الحرب الأمريكية التي كتبت نهاية المراهنة على الاستبداد لحماية الاستقلال .
وبقاء زمام المبادرة في يد الحكومات وحدها يعني أن يبقى العالم العربي رهين خطاب النخب الزائفة التي صنعت في سراديب أجهزة الأمن السياسي ووجدت مددا ماديا وسياسيا سخيا من الداخل والخارج ، فاحتلت واجهة المشهد السياسي واحتكرت الوطنية ولم تقدم للأمة سوى الكثير من البذاءات والخرافات والأكاذيب ، معتبرة أن الكفاءة في توزيع الاتهامات ورفع الشعارات معيار تقدم الأمم .