ما يهمنا هنا والموضوع يخص الثقافة العربية ، أن هذه الثقافة التي يفترض بها أن تكون العنصر المؤسس والداعم والمؤيد والحامي للهوية العربية بعامة ، والعروبة الثقافية بخاصة ، بكل ما تمثله من قيم ومثل وسلوكات موروثة ، قد أخذت تتعرض لتحديات ومخاطر بدأت إفرازاتها تطفو على سطح الواقع العربي متمثلة بالغزو الثقافي الخارجي ، وفرض المنظور الثقافي الغربي على المجتمعات العربية . ويخشى مع استمرارها أن تشكل مشهدا لا يمت قلبا وقالبا إلى العروبة بكل أبعادها . إن الإنسان العربي في غمرة هذا المخاض الثقافي ، طبيعيا كان أو اصطناعيا ، يتوقع من المستويات السياسية الرسمية بعامة ، ووزارات الثقافة العربية بخاصة ، أن يكون لها دور فعال في حماية العروبة الثقافية . وفي ذات السياق تطويرها بما يحقق لها النمو والإزدهار والقدرة على التعايش مع متغيرات العصر ومستجداته . وهذا هو الدور الحقيقي المفترض لهذه الوزارات ، والتي يفترض بها أيضا أن تعمل تحت ظلال الروح القومية ، لا التقوقع في قماقم السيادات القطرية الضيقة .
إن ما تتضمنه البيانات الختامية لمؤتمرات وزراء الثقافة العرب في العادة ، لن يكون هنا مدار بحث ونقاش . إن حديثنا مكرس هنا لقضايا لم تتطرق إليها هذه البيانات ، أو أنها بصحيحالعبارة قد تحاشتها عمدا . وهي في اعتقادنا على جانب كبير من الأهمية والخطورة ، وكان لا ينبغي الإلتفاف عليها ، أو إهمالها وتجاهلها وعدم تخصيص مساحة لها على أجندات أعمال هذه المؤتمرات .
واحدة من هذه القضايا – وكان قد صدر بحقها توصية سابقة في أحد المؤتمرات ، وفي مؤتمر آخر لم يتم الإتفاق عليها – هي قضية فضائية الثقافة العربية التي لم تبصر النور حتى الآن . إن مما يؤسف له أن لا تكون هناك فضائية للثقافة العربية ، و بعبارة أدق للعروبة الثقافية . ومثالا لا حصرا : الفكر العربي / الأدب العربي / الشعر العربي / الفن العربي / القيم والمبادىء والمثل العربية ، وسط هذا الكم الهائل من القنوات الفضائية العربية الرسمية والخاصة والمتعددة الإختصاصات والإتجاهات ، والتي يصح القول فيها إنها ناطقة بالعربية ، ولكنها ليست عروبية المنتمى والروح والأصالة .
إن فضائية الثقافة العربية ضرورة ملحة في غمرة تعرض هذه العروبة إلى هجمة غزو ثقافي خارجي ، تستهدف اقتلاعها من جذورها والإطاحة بها إلى مهاوي العولمة . وفي ذات السياق ، فمن المفترض أن لا تكون مثل هذه الفضائية خاصة الملكية ، وإنما يفترض أن تتحمل مسؤولية إنشائها وتمويلها والإشراف عليها هيئة منتخبة من وزارات الثقافة العربية وتديرها طواقم ثقافية إبداعية عربية المنتمى على مستوى العالم العربي .
والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح في هذا الصدد : لماذا لا تخرج مثل هذه الفضائية إلى الأثير العربي ؟ . والجواب عن ذلك : هل هو التقوقع السيادي القطري الذي وصل إلى حد أن لا يكون للعالم العربي فضائية مشتركة ، أو حتى إذاعة صوتية ، أو حتى صحيفة ، وبالتالي أن يكون له ثقافة واحدة تحفظ له عروبته .
إن أزمة العروبة الثقافية لا تقف عند حدود الإفتقار إلى وسائل إعلام ثقافية على مستوى قومي . ثمة غزو ثقافي خطير للعالم العربي ، يتهدد كل ما يتمتع به الوجود العربي من خصوصية وتميز . وهذا كله يأتي في إطار تغيير الثقافة المفروض على العرب ، وليس في إطار ثقافة التغيير والتنويع والإستفادة من ثقافة الآخر .
وكثيرة هي الأمثلة على ذلك ، والتي أصبحت شاهد عيان على مخطط إبدال وإحلال تمارسه هذه الأيام شرائح مثقفة يفترض أنها عربية باسم الحداثة وما بعد الحداثة ، مسايرة لركب العصرنة والعولمة والتطوير والتحضر . وحقيقة الأمر ، فإن هذه الشرائح في غالبيتها ما هي إلا مسوقة لثقافات الآخر بخيرها وشرها ، ومستهدفة في الدرجة الأولى النيل من جذور العروبة الثقافية وموروثها الأصيل .
في هذا الإطار ، تتعرض اللغة العربية ، وهي سور الثقافة العربية العظيم إلى هجمة شرسة تقلصت على أثرها مساحة انتشارها بين أهلها . إن هذه اللافتات والشاخصات والأسماء والمسميات والعناوين في معظم مرافق الحياة الإقتصادية والتجارية والإعلامية والفنية والسياحية والتربوية والترفيهية والخاصة ، أصبحت إما باللغة الإنجليزية أو الفرنسية ، أو أنها تكتب بحروف الأبجدية اللاتينية .
إلا أن الأخطر من هذا كله أن هذا المد اللغوي الأجنبي والمصحوب بالجزر اللغوي العربي ، قد أصبح له ارتباط وثيق بالرقي والحضارة والتقدم ، على حد ادعاء السائرين في ركابه . وكما يقول المثل العامي ما هو " أفرنجي برنجي " . والأفرنجي هو الأجنبي ، واما البرنجي فكلمة تركية تعني المكان الأول . أما ما هو عربي فإن مكانته متدنية ، ولا يرقى إلى مصاف نظيره الأجنبي . وهنا تتجلى عقدة الخواجا التي يتصاعد استشراؤها ويستفحل مع الأيام .
ومثالا لا حصرا ، ها هوالشعر العربي ، وهو ديوان العرب وضميرهم وتاريخهم يتعرض هو الآخر إلى تجريده من خصوصياته وفرادته وتقنياته الموروثة التي انفرد بها على مدى العصور بين كل أشكال الشعر العالمي . لقد انبرت شريحة عربية باسم الحداثة ، وما بعد الحداثة وكل المدارس الشعرية الغربية الأخرى إلى محاربة قوالب الشعر العربي الأصيل وتقنياته . ولم يقف الأمر عند الشكل بل تعداه إلى المضمون . إن المقصود هنا هو الأغراض الشعرية . فلم يعد هذا الشعر يصور الواقع العربي بنضالاته وآلامه وآماله وتطلعاته . ولم يعد حاضنة توليد اتجاهات مواطنية صالحة . لقد هرب إلى الأساطير والطلاسم والتهويمات والغموض ، وغرق في الخوض في مجاهل الذات والأنا المظلمة .
إلا أن أخطر ما تتعرض له العروبة الثقافية ، وتحديدا منظومة القيم والمثل والأخلاق والمبادىء والعادات والتقاليد ، هو هذا التحدي الخطير الآتي من الفضائيات العربية الخاصة التي لا تخضع لرقيب أو حسيب . لفد كرست مساحة شاسعة من برامجها وأهدافها سواء بقصد أو بغير قصد أو لهدف أو لآخر لتحدي هذه المنظومة والقضاء عليها ، عبر ما تبثه من رقص وغناء وتمثيل خرج على القيم ، واستباح الحرمات وخدش الحياء ، وجعل من جسد المرأة سلعة تروج لفن هابط ، ليس له هدف إلا إثارة الغرائز والكسب المادي بأي ثمن .
إن الحديث عن التحديات الثقافية التي تتعرض لها العروبة الثقافية بعامة ، والإنسان العربي بخاصة كثيرة وخطيرة ، جراء هذا الإنفتاح الفوضوي على الآخر غير المبرمج والمراقب . وهذا لا يعني رفض المستجدات والمتغيرات العالمية ، شريطة أن لا تستهدف اقتلاعهما من جذورهما بتغيير انتماءاتهما . وهذا ما هو حاصل فعلا ، كونه لايشكل بنودا أساسية على أجندات وزارات الثقافة العربية .
إن السؤال المتعدد الجوانب الذي يطرح نفسه بإلحاح هنا : أي إنسان عربي سيكون إنسان ما بعد نصف قرن ؟ . وماذا يتبقى من عروبته الثقافية وغير الثقافية ؟ . وهل ستكون هناك أسماء عربية لمحال أو برامج أو علامات تجارية ، أو حتى مأكولات ومشروبات ؟ . وماذا ستكون عليه اللغة العربية أمام هذا المد اللغوي الأجنبي ؟ . وأية أخلاق وقيم ومثل وعادات سوف تكون سائدة تحت ظلال هذا التغيير في الثقافة ؟ .
وكثيرة كثيرة هي الأسئلة التي يفترض أن تجيب عنها وزارات الثقافة العربية قبل غيرها من الموضوعات والقضايا التي لا تحتل نفس مكانة الصدارة والأولوية ، حتى تكون هناك ثقافة عربية متطورة ذاتيا ومنفتحة ضمن ضوابط على التغيير ، وكي لا يكون هناك بديل للثقافة العربية .