في الوقت الذي يحتفل فيه العالم بالذكرى الستين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان لا يزال مئات من المسلمين معتقلين في غوانتانامو، ورغم أن بعضهم قد يكون متورطا بالتخطيط لهجمات الحادي عشر من سبتمبر على الولايات المتحدة الأمريكية إلا أن الكثير منهم من الأبرياء، وكلا الفريقين قد مضى على سجنه سنوات طويلة دون أن تتم محاكمته محاكمة قانونية.
وقد قرأت مؤخرا كتاب (Enemy Combatant) لمعتقل سابق من غوانتانامو هو البريطاني المسلم (معظّم بج) يروي فيه تجربته المريرة في المعتقل الأمريكي في كوبا.
يقع الكتاب في 394 صفحة وكان من الصعب علي أن أتركه قبل أن أنهي قراءته فهو مشوق للغاية، تحدّث فيه (معظّم) في البداية عن نشأته في مجتمع عنصري في منطقة (برمينغهام) البريطانية التي يعادى فيها ذوو الأصول الآسيوية - وهو منهم، وعن ذهابه للعمرة وصدمته - كالكثير من الأجانب - من غرور بعض العرب وسوء معاملتهم وعدم تطبيقهم لمبادئ الإسلام، وعن تدينه بعد احتكاكه بلاجئي البوسنة الذين انتقلوا للعيش في بريطانيا وتأثره بالقصص المأساوية التي رووها له عما تعرضوا له في ديارهم من عنف واضطهاد على أيدي الصرب، كما أتى على ذكر الغزو العراقي الغاشم للكويت وشرح كيف أنه والكثير من المسلمين قد رفضوه لكن في الوقت ذاته عارضوا التدخل العسكري لتحرير الكويت وتساءلوا: ( ِلمَ تتدخل الولايات المتحدة لتحرير الكويت ولا تتحرك لتحرير فلسطين أو جنوب لبنان من الاحتلال الإسرائيلي؟ )،
ثم تحدث عن حادثة القبض عليه في باكستان لجريمة لم يرتكبها ومعاناته في عدة معتقلات كان آخرها غوانتانامو. خضع (معظّم) كغيره من المعتقلين للكثير من أساليب التعذيب النفسي والجسدي مثل التكبيل والضرب والتجويع والتهديد بإيذاء الأهل والزوجة وإهانة المعتقدات الإسلامية والمصحف الشريف، كما شاهد أمام عينيه مقتل اثنين من المعتقلين المسلمين.
ورغم المعاملة غير الإنسانية التي تلقاها (معظّم) في المعتقل إلا أنه لم يغفل في كتابه عن ذكر بعض الحراس اللطفاء الذين صادفهم والذين كانوا يرفضون ما تقوم به حكومتهم من ممارسات تخالف القوانين الدولية وتنتهك حقوق الإنسان، وأوضح أن سعة اطلاعه وتنوع ثقافته وإجادته للغة الإنجليزية – التي لم يكن يتحدث بها إلا القليل من المعتقلين – فتحت له أبوابا كثيرة ومكنته من محاججة الجنود الأمريكان أحيانا ومطالبتهم بحقوقه.
ووصف الكاتب كيف أن نقله بعد أكثر من عام من الحبس الانفرادي إلى زنزانة من الأسلاك المعدنية أشبه بقفص أدخل السرور الكبير على قلبه لأنه مكنه من رؤية معتقلين آخرين ولو من بعيد، وتناول مواقف كثيرة له مع هؤلاء السجناء الذين لم يلتق بهم من قبل وكيف كانوا - متى ما استطاعوا الحديث عبر الأسلاك - يصبّرون بعضهم بعضا ويتناصحون ويتناقشون بالأمور السياسية والدينية وقد يختلفون دون أن يروا وجوه بعضهم البعض، بل ويصلّون جماعة – متى سُمح لهم ذلك - كلٌّ في زنزانته ، وكيف أنهم كانوا يتواصلون رغم اختلاف ألسنتهم.
واللافت للنظر أن الكاتب لم يسرد فقط معاناته في تجربة الأسر الطويلة بل ذكر أيضا بعض المواقف الطريفة القليلة في غوانتانامو، فعندما سمح الحرس له باقتناء قلم وبعض الأوراق قام بكتابة بعض الكلمات المبعثرة بعدة لغات على ورقة ورسم بعض الرموز الغريبة ثم وضع الورقة خفية في الساحة الخارجية التي كان يسمح للمعتقلين المشي بها قليلا بين حين وآخر، وعندما وجد الجنود الورقة ظنوا أنها خطة لهروب المعتقلين أو شفرة للتواصل بينهم مما أخافهم كثيرا فانشغلوا بمحاولة فك الترميز وسبّب ذلك حالة من الارتباك والتوتر والاستنفار بالمعتقل.
الكتاب يحوي الكثير من القيم التي يمكن أن يستفيد منها القارئ، فهو يوضح كيف أن المسلم يجب أن يكون داعية إلى الله تعالى أينما كان وفي كل الظروف وجميع الأوقات حتى مع أعدائه، ويذكر أن اثنين من الحرس الأمريكان قد أسلموا على يد عدد من المعتقلين المسلمين، ويبين أيضا كيف يجب أن يكون حال المؤمن عند الشدة، صابرا، محتسبا، ملتجئا إلى الله وحده، ذاكرا إياه عز وجل، ومتقربا إليه بقراءة القرآن والصلاة وصيام التطوع، فقد كتب (معظّم) أنه قال لنفسه حينئذ (إن ما يحدث هو اختبار لإيماني، إنْ نجحت به فسأكون حرا طليقا، وإن فشلت فسأخسر كل شيء: عائلتي، شرفي، كرامتي، احترامي لنفسي، والفوز في الآخرة).
كما يروي الكتاب محاولات (معظّم) المتكررة لإقناع الجنود الأمريكان ببراءته وعدم وجود صلة بينه وبين أي هجمات إرهابية، ومدى إحباطه من خذلان الحكومة البريطانية له وعدم مطالبتها بالإفراج عنه بل وتواطئها مع الحكومة الأمريكية، وتهديده بنقله إلى سجن في إحدى الدول العربية لتعذيبه وانتزاع الاعتراف منه كما تم مع عدد من المعتقلين، ثم يسرد قصة الإفراج عنه أخيرا وعودته لأحضان أسرته ورؤيته لولده الرابع الذي ولِد خلال أسره، ومعاناته في العودة للحياة الطبيعية والتأقلم مع من حوله.
الكتاب ليس مجرد سرد لأحداث أو أفعال إرهابية أمريكية تلت الحادي عشر من سبتمبر 2001، وإنما شهادة حقيقية محايدة مؤثرة ومؤلمة أيضا عما حدث ولا يزال يحدث.
اللهم انصر المظلومين من عبادك وأعز الإسلام والمسلمين.
________________________________________________
تم نشر المقال في العدد 141 من صحيفة الحركة في 23/12/2008
http://www.al-haraka.com/node/8573