لا مجال للتأمل اليوم، ولا مجال للصمت، بالأمس كانت بيروت واليوم صارت غزة واحة من دم وأشلاء جثث..! ليس هناك أصعب من مشاهد المجازر الوحشية التي يذهب ضحيتها مئات من القتلى ومئات من الجرحى..!!
لامجال للتأمل اليوم والعدد يفوق حدود التصور (ألف بين قتيل وجريح وفي يوم واحد) رقم قياسي يستحق أن يدخل في سجل "غينيس".
في مثل هذه اللحظات يتوقف العقل عن التفكير، تتربع صور الموت البشع نوافذ اعتقالات الذاكرة، فالذاكرة هنا معتقلة من قبل مشاهد المجزرة الجديدة...!!
ويشدك السؤال إلى نفسه شداً عتيداً، ماذا يحق لهم ؟ وماذا يحق لنا؟ وإلى متى سيبقى الصمت العربي المدقع واقفاً كالمتفرج المشلول على مسرحية هدر الدم العربي مقابل سكونية الرد الحازم الذي لا تراجع عنه حتى تعود الأرض إلى أصحابها ونتخلص من شيء اسمه إسرائيل.
تحت شفرة أعلامهم كتبوا ( لكم الموت والصمت ) ..!
تحولت الأرض بين أيديهم إلى مستوطنات تزينها أشجار اسمها الغرقد، وعلى شواطئ تل أبيب تتمدد العاريات، كي يمارسن طقوس الملذات والرغبات الجسدية وفي العلن، تعلو أصوات التأوهات للوحوش البرية على أنغام موسيقا hiphop-breakdance ، ويحتفلون كل ليلة إذا سقط شهيد فلسطيني، يعتبرونه قرباناً لفرح ألهة المجون والتعري، ونحن نوزع في جلساتنا الودية كلمات، ليس أكثر من كلمات تماماً كالعزاء..!
يؤكدون: لامكان لفلسطيني على أرض وطئها ذات يوم "راحاب الزانية" وأقام فيها أبشع المجازر، لا وجود للهُوية العربية الفلسطينية الناطقة بالعربية في أرض نعرف كيف توزع وتقسم، ويقام عليها الجدار..!
هانحن نقيم عليها حصاراً شنيعاً ومميتاً، لا نجاة لأحد..! (الموت لكم والحياة لنا) .. صراع بين الماء والنار!
يعتقدون في غيهم السوداوي أن النار هي الأقوى، لأنهم يملكون سلطة سلاح الدمار الشامل..! لكن النار مهما كانت عظيمة وقوية فإن الماء إذا تفجر وانفجر يطفئ أكبر براكين الدنيا الثائرة. ألم ينتصر العرب في معارك يشهد لها التاريخ بذلك ..
ونريد من التاريخ أن يشهد اليوم أن الصمت العربي هو سبب تخاذل وتراجع الأمة عن تحقيق مصيرها.
قرأ لي أحد الصحفيين قصة قصيرة جداً مفادها أن أحد الحكام في زمن ما، أعلن ولاءه للعدو مدعياً أنه فعل ذلك حفاظاً على أمن وسلامة شعبه وبلده، لكن العدو عندما أرسى قواعد متينة في هذا البلد، أصبح بإمكانه أن يغير على البلد المجاور، فكان أن وقع الشعب والحاكم بين نارين، نار الغزو المفاجئ، وشلل دعم الدولة المجاورة.. لعلّ هذه الحكاية تنطبق تماماً على ما حكته جدتي يوم كان بعض اليهود يسكنون في بلدات سورية قبل أن يسمح لهم بمغادرة البلاد إلى أمريكا وغيرها من الدول الأوربية التي فتحت لهم أبواب الاستقبال الملكي.
قالت جدتي: كان في العمارة عائلة يهودية، لا يقربها أحد من الجيران العرب السوريين، وكانوا حتى يخشون من النظر في عيونهم لأنها كانت تميل إلى الصفرة مشبعة بابتسامة مريضة شامتة..!
من صفاتهم اللعينة أنهم كانوا حين يصعدون الدرج، كانوا يتسللون على رؤوس أصابعهم، مثل اللصوص تماماً.
الذي حدث أن الجار رأى اليهودي ذات يوم حين نزل لشراء بعض الحاجات الضرورية يتلصص على زوجته من شق الباب فقد تركه مفتوحاً، ليقينه أن لن يتأخر..!
فتشاجر معه على مرأى ومسمع من الجيران جميعهم، لكن أحداً لم يتفوه بكلمة، ولم يخرج حتى ليقف إلى جانبه، في قرارة نفوسهم كانوا يخشون الانتقام من عائلة اليهودي، فكلمة يهودي مخيفة لدرجة كانوا يتحاشون حتى من النظر في وجهه أو السلام عليه..!
بعد مدة كرر العمل نفسه مع جار آخر، فتعالت الأصوات وتناطحت الأكتاف وتضاربت الرؤوس وتخبطت الأرجل، هذه المرة لم يصمت الرجال، لقد أيقنوا أن الأمر سيتكرر وسيلحق بذقونهم العار، لذلك قرروا أن يضعوا حداً لهذا الخائن الغدار، فأوسعوه ضرباً حتى دميت شفتاه، وازرقت جبهته واحمرت عيناه، بعد ذلك احتاطوا للأمر بأن أقاموا الستائر عند النوافذ والأبواب تجنباً للأمر المكروه وتحسباً من خسة الدنيء..!!
واليوم تقول "رايس" أنها تدين عمليات المقاومة في الرد على ستين طائرة حربية أغارت على المدينة المأهولة بالسكان من العرب الفلسطينيين والتوقيت زمن محسوب بأعشار الثانية (وقت انصراف الطلاب من مدارسهم) .. أي شرعية دولية تلك التي ستقاضي المسؤولين عن هذه المجزرة؟!
أي صرخات استغاثة ومظاهرات استنكار ستعيد للضحايا نبض الحياة؟ ومن سيمسح عن عين الأم أو الأب أو الزوجة أو الأخ والأخت الدمع الحزين؟
إلى متى ياعرب هذا الصمت وحطين المباركة ما عادت مباركة اليوم؟!
وأسماء أبطال الأمس أصبحوا اليوم أسماء عادية نعلقها على لوحات المدارس، مجرد أسماء لا أكثر !!
صوتنا وصور مآسي الحصار في غزة لا تصل حقيقتها إلى الشعوب الأوربية والأمريكية، لم لا ! وقنواتنا الفضائية تدعم الأمور الأعلى شأناً من غزة وحصار غزة وموت شعب غزة وهلاك البنى التحتية، برنامج (هزي يا نواعم ) و (السوبر ستار أكاديمي) وهلم جرا، لهم الأولوية من حصار غزة وطرد شعب غزة..!
هذه البرامج مثل ملهاة الطفل كي يكف عن البكاء، وقد أصبحت ملهاة الناس خاصة جيل الشباب كي يقضوا على الذهنية الفكرية الوطنية في عقولهم، تحشو رؤوسهم بالدوافع الغريزية أكثر، تدفعهم للتصويت، للتصفيق، للهياج وهم يرفعون الصور مثل رايات النصر، وراية غزة أشبه بغجرية نهبها العهر السياسي كل شبابها وفتنتها فما عادت تصلح أن تكون بلدة آمنة مطمئنة..!
غزة اليوم في المواجهة، وهي الواجهة التي تحترق من أجل كلمة لا لإسرائيل، ونحن من هنا لا نملك غير الدعاء والكتابة لمن يهمه الأمر أن يقرأ ما حدث في غزة يوم 27، و28 وهلم جرا من كانون الأول أواخر 2008 من الصباح إلى ما بعد انصراف الطلاب من مدارسهم.