في كثير من الأحيان يجد الإنسان نفسه حيرانا آسِفَا على ما يراه ويسمعه من الاختلاف الشديد المثير للإستهجان بين ردات الفعل والمواقف التي يتبناها بعض المسئولين في المنظمات والمؤسسات الدولية حول قضيةٍ وأخرى أو حدثٍ وآخر بالرغم من تطابقهما واتحادهما في الكثير من السمات والنتائج.

ولعل خير ما يمثل وجهة نظرنا هذه موقف المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية السيد (لويس مورينو اوكامبو) والذي ملأ الدنيا ضجيجاً وبكاءاً على ما يحدث في (دارفور) متهماً الرئيس السوداني (عمر البشير) بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وإبادة جماعية وجرائم حرب في (دارفور) ومطالباً مجلس الأمن باستصدار أمر بالقبض عليه وتقديمه للمحكمة الدولية !

وفي مقابل هذه الحمية والشهامة المفرطة لم ينبس سيادة المدعي العام المحترم بنبت شفة حول المآسي والكوارث التي تسبب بها الاحتلال الإسرائيلي في غزة,  وكأن أهل غزة من كوكب آخر لا علاقة لما أصابهم من انتهاك مريع لأبسط مبادئ الإنسانية وحقوق الإنسان بمحكمته الجنائية لا من قريب ولا من بعيد!! يا سبحان الله!

أليس ما يحدث في غزة هذه الأيام وقبلها يستحق ولو على الأقل إشارة استنكارية عابرة من السيد (أوكامبو) ضد عمليات القتل والتدمير والإبادة والتخريب التي تمارسها القوات الإسرائيلية على رؤوس الأشهاد, وتنقله وسائل الإعلام المختلفة بشكل لا يحتاج معه حضرة المدعي العام لبذل أدنى مجهود لجمع الأدلة والبراهين التي تدين القيادات الإسرائيلية على هذه الجرائم بشكل واضح وصريح لا لبس فيه ولا غموض؟

أين صوتك الذي ملأ الأفاق ضجيجاً ضد الرئيس السوداني من الممارسات الإسرائيلية التي شملت هدم المنازل على رؤوس أصحابها وقصف دور العبادة وسيارات الإسعاف والمدارس ومقار الأمم المتحدة ووكالات الغوث وحتى المقابر الملئى برفات شهداء الاحتلال لم تسلم من هذا العدوان الهمجي الشنيع وكأن الحقد والغل الإسرائيلي البغيض لم يكتفِ بسلب حياتهم منهم بل لاحقهم بعد مماتهم؟؟يا من تدعي أنك من "أصحاب الضمائر الحية" ..

أين ضميرك من منظر جثث الأطفال والنساء والشيوخ التي دفنتها آلة الحرب الصهيونية الهوجاء تحت الأنقاض, والتي تفننت وسائل الإعلام العربية والدولية في تصويرها وعرضها على العالم بشكل يجعل الصخر يتفجر كمداً وحزناً؟ أم أن ضميرك تجاذبته الأهواء ونخرت فيه المصالح فأصبح يصحو حيناً ويموت حيناً آخر؟؟؟هل يعقل أنك لم ترَ هذه المشاهد المفجعة ولم تسمع بهذه الأخبار المريعة؟؟ أم أن أهل غزة لا يستحقون الحياة؟؟ أو أنهم برأيك لا يحسبون على البشر الذين يدخلون ضمن اختصاص محكمتك الجنائية ؟

إذا كانت الجرائم والفظائع التي ترتكبها إسرائيل لا تصنف على أنها جرائم حرب فكيف تكون جرائم الحرب إذاً؟؟ أما إذا كان "نصير المستضعفين" مقتنعاً بما يردده الإسرائيليون ومَـن سايرهم بأن ما يحدث في غزة إنما هو دفاع عن النفس ضد الاعتداءات الفلسطينية وصواريخ حماس.. فلماذا لا يضع حضرته بالاعتبار وجهة النظر السودانية بأن ما يحدث في (دارفور) يندرج ضمن سعي حكومة (البشير) إلى الحفاظ على وحدة الأراضي السودانية وتحقيق سيادة الدولة عليها وحمايتها من التدخلات الخارجية؟؟

أنا هنا لا أقر ما يحدث في دارفور ولا أقبله وأتمنى إيجاد الحلول الجذرية لمحنتهم بأسرع وقت, ولكنني في الوقت نفسه أشجب وأستنكر تلك الازدواجية في المعايير وسياسة الكيل بمكيالين التي لم تكتفِ الولايات المتحدة بانتهاجها بل وطبعت بها كافة المؤسسات والمنظمات الدولية.. 

فما يحدث في غزة في رأيي أشنع وأفظع مما يحدث في دارفور.. والأدلة والبراهين في غزة واضحة وصريحة على الجريمة والمجرم الذي في الحقيقة لا يَخفى على أحد ولا يحاول أصلاً أن يُخفي نفسه عن أحد, فمرتكبو الجرائم والتدمير في غزة معروفون بل إن اعترافاتهم تغص بها وسائل الإعلام في شتى أصقاع الأرض ومن أمن العقوبة أساء الأدب.

وختاماً اسمح لي يا "نصير الإنسانية المعذبة" أن أسألك سؤالاً أخيراً عن منبع وأسباب الاختلاف في التعامل والتفاعل ما بين هاتين القضيتين لديكم ... هل هو يكمن في طبيعة المتهم أم أنه يتمركز في هوية الضحية؟؟ إنها أسئلة لا أجد لها إجابة, والحقيقة أنها أسئلة لا تحتاج أصلاً إلى إجابة

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

nashiri logo clear

دار ناشري للنشر الإلكتروني.
عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

 

اشترك في القائمة البريدية