الحديث عن النصر والهزيمة في قواميسنا الثقافية العربية حديث مؤلم وخطير، ويبدو أن العدو الصهيوني قد استنسخ من العرب منطقهم «المعاصر» في فهم الهزيمة والنصر وبنفس الطريقة! فالتعايش القسري بين الجهتين سلماً وحرباً جعلهما في نهاية المطاف -إن كان لهذا المطاف من نهاية!- يلتحمان ببعضهما التحام الوحش بالفريسة ساعة غرسه الأنياب في شرايين عنقها!

لقد كان ما رأيناه في وسائل الإعلام ساعة فساعة من هذا الهجوم المتغول على غزة، عملية افتراس وحشي بامتياز، طلب الفريسة، مطاردتها وحصارها حتى الإنهاك، تطويقها، ثم الانقضاض عليها وتمزيقها إرباً إرباً، فأيّ نصر للوحش وقد افتَرَس، وأيّ نصر للفريسة وقد أُكِلت؟!

أفظع ما في مناظر الافتراس الحيوانية المتوحشة التي تقدمها لنا بين الحين والحين «ناشيونال جيوغرافيك»، لا يكمن في عمليات الافتراس المقززة ذاتها، وإنما في هذه الفظاعة الموغلة في القسوة والبشاعة في سلوك الفصائل الحيوانية المتوحشة والتي تبدو آية في الجمال والخفة والرشاقة، وأقبح من ذلك إنما هو انصراف بقية أفراد القطيع الذي كان للتو مهدداً من قبل نفس الحيوان المفترس، انصرافه عن المشهد وكأنه لا يعنيه، مطأطئ الرأس يمشي ذلولاً في مناكبها تاركاً أخاه بين فكي جماعة كاملة من الوحوش تنهش لحمه وتدق عظمه وتلتهم عينيه!

هذا المنظر المفرط في القبح والشناعة و.. الواقعية، لا يختلف أبداً عما شهده العالم في غزة، غزة المحاصرة ولا مفرّ، غزة التي هُدمت على رؤوس سكانها والعالم كله يتفرج، حتى ما إذا سويت أركان المدينة بالأرض وبلغ سيل الدماء أن أغرق الأخلاق والقوانين الدولية ومعها كل مؤسسات حقوق الإنسان والحيوان والنبات والجماد، أتى أمر أصحاب الأمر بالتفكر فيما يمكنهم أن يصنعوا، من قمم وعراضات وجعجعات وتبرعات وخطط ومخططات وجيئات وروحات أمام عدسات الكاميرات المرابطة على مقابر ضمير ما نسميه «المجتمع الدولي»!

لا أستطيع -على هامش ما تمخض عنه غبار الغزو- أن أفهم دلالات النصر والهزيمة التي تجوب أروقة الإعلام والسياسة منذ الانسحاب الإسرائيلي من غزة، فكيف يكون الوضع في غزة بالنسبة لمجاهدي «حماس» نصراً؟ والنصر لا يكون إلا في حروب متكافئة يتغلب فيها أحد الطرفين على الآخر إثر معارك شريفة بين الطرفين، وهذه ليست حرباً، إنها مذبحة بكل المقاييس السياسية والعسكرية والإعلامية والعلمية والإنسانية! وكيف يمكن للإخوة الفلسطينيين أن يسموا هذا نصراً والحال في غزة هو ما نرى؟! أم أننا على سُنّة عبدالناصر ماضون، فبما أن حرب يونيو التي خسر فيها العرب «قدسهم وأقصاهم» لم تأتِ على النظام ولم تزحزح الرئيس عن كرسيه، فلقد تمخضت في عُرف الناصريين عن نصر مؤزر!

لقد انسحبت إسرائيل في اللحظة المناسبة تاركة للفلسطينيين مهمة إنجاز ذبح بعضهم بعضاً، وللعرب مهمة الإجهاز على بعضهم بعضاً.

أظن أنه من المبكر جداً الحديث عن «انتصار» في ظل الدماء والجروح والآلام التي لا تكاد تُطاق، والتي لا يصلنا منها إلا النزر اليسير، نتفرج عليه كما نتابع مسلسلاً مكسيكياً ونحن نأكل ونشرب ونرفل في الدفء والأمان.

لقد انسحبت إسرائيل إكراماً لعيون أوباما، نزولاً عند مطالب الإدارة الأميركية باحترام حفل تنصيب الرجل الذي تولى مقاليد الحكم في «الكرة الأرضية»! كما تمّ هذا الانسحاب بناء على مطالب أصدقاء إسرائيل في أوروبا وهم يشاهدون انهيار صورتها أمام الرأي العام الأوروبي، ولقد كان في هذا لإسرائيل هزيمة وأي هزيمة!

هُزمت إسرائيل لأنها لم تحقق أياً من أهدافها المعلنة، وعلى رأس ذلك القضاء على المقاومة والمقاومين، وهُزمت إسرائيل لأنها افتُضحت أمام العالم، وبدت وحشاً ظاهر الأنياب منقضّاً على فريسة مسكينة ناهشاً فيها أنيابه ممتصاً دماءها، وهزمت لأن العالم فتح كل الملفات التاريخية القديمة التي عملت هوليوود بدأب على إغلاقها، ونبش صور هولوكوست اليهود وكأنها الجريمة الإبادية الوحيدة التي ارتكبت في هذا العالم البائس، ولقد انقلب سحر هوليوود على الساحر بما شاهده الأوروبيون على أرض الواقع من صور لا تختلف عن صور تلك المحرقة المبالَغ فيها إلى ألف ضعف. وهزمت إسرائيل لأن حفنة من المقاومين استطاعت أن تمنعها من دخول الأرض التي كانت قد أحرقتها بالقصف الجوي غير الإنساني، ولأنها لم تستطع القضاء على رموز حماس في غزة، ولأنها لم تتمكن من القضاء على هذه السلطة السياسية المقاومة في القطاع، فاكتفت باغتيال الوزير صيام واعتبرت ذلك نصراً مؤزراً يكفيها مبرراً لإنهاء المجزرة التي خاضها «رجالها وليفينيتهم» مقدمين دماء الفلسطينيين قرباناً بين يدي انتخاباتهم «الديمقراطية»! «الحرة»! «النزيهة»!

هزمت إسرائيل لأنها خسرت معركة السياسة، واضطرت لفرض قواعد اللعبة، لعبتها الخاصة، لعبة الدرهم والدينار اللذين تسيطر بهما على كل العواصم الغربية، وتعلو بهما علواً لا ندري إن كان هو العلو العظيم الأخير، أم أن هناك المزيد بانتظار التاريخ والإنسان ليشهداه في هذه المنطقة المقدسة من العالم.

لقد بدا ظاهراً للعيان عزوف كل كبار ومشاهير السياسيين عن إسرائيل، حتى إن ساركوزي ودّع «الليفينية» أول أيام المجزرة بطريقة غير لائقة، وتركها لدى باب قصر الحكم دون أن ينتظر مغادرتها، وانصرف عنها بحركة لافتة! وليس ساركوزي وحده، بل إن كونداليزا رايس نفسها كانت توقع أوراق الاتفاق الإسرائيلي الأميركي الأخير ووجهها يطفح بالقرف، حتى إنها لم تنظر في وجه الوزيرة الإسرائيلية ولا مرة واحدة حتى نهاية مراسم التوقيع! أما عن سولانا وبان كي مون فحدّث ولا حرج، ولكن حسابات السياسة تتبع حسابات المال، وما يريد الساسة قوله يلجمه في حلوقهم ضغطُ المال والسلطة و.. الفضائح التي تعدها أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية لكل من هؤلاء «الكبار» بانتظار لحظة ضعف إنسانية يتعاطف فيها مع حق، أو يظن معها في نفسه القوة لدحض باطل.

لقد كانت هزيمة إسرائيل مدوية في هذه الجولة، هزيمة لن يراها الناخب الإسرائيلي إلا بعد حين، وقد بدا أنه مخدوع حتى الحوايا بالإعلام الإسرائيلي المضلل المستكبر، إلا أن هزيمة إسرائيل لا تعني من قريب أو بعيد أننا انتصرنا، نحن لم ننهزم ولكننا كذلك لم ننتصر، إنه ليس نصراً.. إنه صمود وصبر ورباط وتمسك بالحق الذي يلتهب في الأيدي جمراً وناراً، وكما أن الناخب الإسرائيلي مخدوع بآلة الردع التي لم تعد تجدي فتيلاً والتي من الأليق تسميتها آلة «الانتقام» و»الإبادة»، فإن المواطن في المنطقة العربية مخدوع بشعارات «النصر» الذي لا يمكن أن يكون نصراً وعلى منضدته 1300 جثة تنشب أظفارها في عيوننا، تسألنا بأي ذنب قتلت أمام سمعنا وبصرنا؟ عدا عن آلاف الجرحى ممن شُوّهوا وانقلبت حياتهم إلى جحيم متواصل وعذابات مستمرة.

لقد خذلنا القضية للمرة المليون، لأن كل التحركات الشعبية من المحيط إلى الخليج، وفي جميع أنحاء العالم لم تؤدّ إلا إلى تحركات محدودة جداً ومتأخرة جداً للنظام العربي، ولم يستطع هذا النظام المتهالك بكل محاوره وأركانه أن يجمع صفه ويترفع عن المهاوي.

إن ما تعيشه الساحة الفلسطينية ليس نصراً كائنة ما كانت مقاييسه، وإننا لنخدع أنفسنا وإخواننا في فلسطين إنْ نحن سميناه نصراً، ما دامت «حماس» تتحدث باسم «حماس»! و»فتح» باسم «فتح» فإن المشوار إلى النصر ما زال طويلا جدا! وإنه من الأولى لهم جميعا أن يستقيلوا بصورة جماعية مشرفة، تاركين المجال لإجراء انتخابات جديدة، لعلها تفرز شخصيات مختلفة لا تضحّي بالأرض من أجل السلطة، ولا تبيع الحق من أجل البقاء، ولا تسترخص وحدة الشعب الفلسطيني حتى لو كان ذلك على حساب ظلم داخلي وخارجي لحقَ بها.

نعم، لقد هُزمت إسرائيل، ولكننا قطعاً لم ننتصر، ما دُمنا نرفع السلاح في وجوه بعضنا البعض، وما دام تمسكنا بالكراسي أهم من تمسكنا بالشعب، وما دمنا لا نفقه آليات السياسة والمقاومة والحكم، ولا نحترم الإنسان وآلامه العظيمة، ولا نفهم مصطلحات الهزيمة والنصر على هامش الوجود والحق ولحمة الشعب المنكوب في مواجهة التاريخ.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

nashiri logo clear

دار ناشري للنشر الإلكتروني.
عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

 

اشترك في القائمة البريدية