ومع ازدياد اعتماد الولايات المتحدة على الخيار العسكري تبدو مقبلة على مرحلة من صعود الجنرالات أعلى قمة الهرم السياسي الأمريكي ، وفي هذا الإطار يمكن النظر إلى إعلان الجنرال السابق ويسلي كلارك ( 58 عاما ) أنه سيخوض السباق للحصول على ترشيح الحزب الديموقراطي للانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2004 . ويأتي إعلان الجنرال كلارك في وقت تتكرس فيه بوتيرة متصاعدة الميول الإمبراطورية في السياسة الخارجية الأمريكية وتعود أسماء كبار القادة العسكريين لتحل واجهة المشهد الإعلامي ربما على نحو لم يحدث منذ الحرب العالمية الثانية . وبطبيعة الحال لا يوجد ارتباط حتمي بين انتماء أي حاكم للمؤسسة العسكرية ودرجة نزوعه لاستخدام القوة العسكرية أو تنامي الروح العسكرية في سياسة بلاده الخارجية ، فهناك مؤسسات متعددة لاتخاذ القرار السياسي .
ورغم الإقرار بصحة القاعدة في عمومها فإن الجنرال كلارك يعد نموذجا للرجل العسكري المقتنع بجدوى القوة كوسيلة لإنجاز أهداف السياسة الخارجية ، وهو ما يجعل ترشيحه داخل الحزب الديمقراطي الذي عرف بأنه أقل ميلا لهذا النهج متغيرا جيرا بالوقوف أمامه . والجنرال ويزلي ك كلارك قائد عسكري أمريكي متقاعد خريج كلية ويست بوينت وله مشاركات عسكرية عديدة بدءا من حرب فيتنام حتى العمليات العسكرية الأمريكية في البلقان . وقد شغل العديد من المناصب العسكرية المرموقة ، منها : منصب مدير الخطط الاستراتيجية والسياسات في هيئة أركان الحرب المشتركة في وزارة الدفاع الأمريكية ( البنتاجون ) بين عامي 1994 و 1996 ، أما آخر المناصب العسكرية التي تولاها فكان منصب القائد الأعلى لقوات الحلفاء في أوروبا بين بين يوليو 1997 ومايو 2000 .
وفي كتابه " الحرب الحديثة " ( الناشر : Public Affairs ومجموعة بيرسيوس للكتب - 2001 ) يستعرض الجنرال كلارك ما طرأ من تطورات على عملية إدارة الحرب في النصف الثاني من القرن العشرين ثم يقرر أن : " استخدام القوة لا يعني بالضرورة قرارا بالحرب الشاملة ، ولو عدنا بالذاكرة إلى الحرب العالمية الثانية ( 1939 - 1945 ) لوجدنا أن هذه النظرية تستند إلى اعتقاد مفاده أن لجوء المتحاربين للعقلانية يجعلهما يدركان أن من مصلحتهما حصر نطاق الحرب ، وتعرف هذه الاستراتيجية في حلف شمال الأطلنطي باسم " الرد المرن " ، أي الدفاع بالأسلحة التقليدية إلى أقصى حد ثم استخدام الأسلحة النووية حسب الاختيار ، مع إمكان اللجوء إلى الضربات النووية الكاملة عند اللزوم " .
" وقد دخل تفكير بعض الحلفاء الأوروبيين من أعضاء حلف الناتو شئ جديد هو تجاوز قاعدة ( الردع ) إلى قاعدة ( الإرغام ) أي الفرض بالقوة . ونستطيع ترجمة القاعدة الجديدة إلى استخدام تدريجي للقوة ، مع إنزال عقاب متزايد لإقناع الخصم بتغيير سلوكه . وتطبق هذه القاعدة مع الدول الصغيرة غير النووية " . وهو يربط بين الاعتبارات السياسية والعسكرية فيقول : " ولنجاح هذا المسلك يجب أن يقوم من البداية على أساس استخدام قوة أكبر مما جرى الالتزام به في البداية ، مع تكثيف هذه القوة بسرعة لتحقيق أغراض عسكرية كبيرة . فالمعروف عادة أن الزعماء السياسيين يترددون ويفرضون قيودا كثيرة على الأعمال العسكرية ، وتكون النتيجة استمرار الحملات العسكرية فترت طويلة تجعل الحكومات مكشوفة أمام الرأي العام في بلادها " !! .
وعندما كان كولن باول رئيسا لهيئة أركان الحرب المشتركة اتفق مع الجنرال كلارك على ضرورة استخدام القوة من البداية ، وليس على نحو تدريجي كما حدث في حرب فييتنام وقد كانت التقاليد العسكرية الأمريكية حتى وقت قريب تقوم على أن القتال يبدأ عندما تتوقف المحادثات ، وهذا سوء تفسير لأن مبدأ القوة الحاسمة لا يتعارض مع استمرار الديبلوماسية العلنية والسرية ، فالقوة الحاسمة هي التي تجعل الإرغام ناجحا ، وتشترك مع الديبلوماسية في إيجاد مخرج للمهزوم .
تلك صورة للسياسة كما يعرفا الجنرال كلارك ، وما ينقله في كتابه عن الجنرال كولن باول الموصوف في الكثير من الكتابات السياسية العربية " الناضجة " بأنه وجه معتدل يشير إلى تغيرات مهمة لها طبيعة مؤسسية تتجاوز الأفراد ومن المرجح أن تظهر بشكل أكثر وضوحا في المزاج العام الأمريكي الذي يبدو حتى الآن وقد تجاوز " عقدة فيتنام " . ولعل من المفارقات أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر التي أراد لها مدبروها أن تدفع المجتمع الأمريكي للخوف أدت إلى نتيجة غير متوقعة هي جعل الأمريكيين أكثر استعدادا لتحمل الخسائر البشرية في العمليات العسكرية طالما أن الإرهاب يمكن أن يكبدها خسائر بشرية أكبر منها على الأراضي الأمريكية .
ورغم أن مجرد رغبة الجنرال كلارك في خوض التجربة المثيرة لا يعني ترجيح احتمال نجاحه ، فإن الاهتمام الإعلامي بإعلانه ترشيح نفسه يشير إلى اتجاه عام لمزيد من الاعتماد على القوة في السياسة الخارجية الأمريكية ، ولدفع العسكريين للواجهة يعززه النزوع الإمبراطوري الأمريكي .