إنه مما لاشك فيه أن سياسات الدول وتوجهاتها وخاصة الكبرى منها ، لايمكن أن تتغير بين يوم وليلة ، فكيف بنا والولايات المتحدة الأمريكية امتلكت من العلم والقوة والمال والتعددية الانسانية والسياسية مابوأها في المرحلة السابقة أن  تكون قطبا عالميا أوحدا ، ومازالت على الرغم من تغير المعطيات على الأرض ، ولطالما ظن القائمون عليها  أنها كقوة سياسية وإنسانية تشكل فرصة سياسية تاريخية "نادرة" في حياة البشرية ، أولَتها يد القدر الدور المنتظرفي هذه المرحلة من التاريخ  لفرض "قيم الحضارة الغربية" بالقوة! ،

قوة السلاح: الذي علا صليله خلال حكم الرئيس السابق سيء الذكر عالميا والذي شيعته يدّ "المقاومة" بكل أشكالها برميه بالحذاء أمام سمع العالم وبصره ، كأصدق تقييم شعبي لسياساته التي أججت لهيب الكراهية والأحقاد ، أو سطوة الإعلام: التي بلغت بالفتح مالم تستطع كل أسلحة العالم وحروبه مجتمعة أن تفتحه من عقول وقلوب وإرادات وسلوكيات وتصورات وقناعات ، بصرف النظر عن ايجابيتها أو سلبيتها .


سياسات وتوجهات الأمم والدول المحترمة والقوية والفاعلة لاتتغير بقرارات سياسية تفرض عليها من مخلوق واحد ، ولكن بتغييرات اجتماعية وفكرية وإنسانية عميقة ، تحدث تحولات حقيقية في ساحات السلوك الفردي ثم الاجتماعي ثم السياسي ، ولايمكن لمثل هذا التحول أن يتم بين عشية وضحاها ولابين تسع وتسعين عشية ومائة ضحى !، وذلك على الرغم من الإرادة الشعبية السياسية الأمريكية الواضحة بالرغبة في التغيير ، الإرادة التي جاءت بأوباما وفريقه إلى الحكم ، فالتقدير والاحترام للمواقف والمبادرات الجديدة ليسا وقفا على أوباما رأس "جبل الجليد" الأمريكي اليوم ، ولكن لتلك القواعد الشعبية التي كانت تذرف دموع الفرح بقدرتها على تحقيق "الحلم" من جديد يوم أن أدى الرئيس النصف الأسود والنصف الإفريقي والنصف المسلم القسم الدستورية وأصبح رئيسا للبلاد، لكن هذا التقدير لايعني أي اعتراف حقيقي بأي تغيير حاصل على أرض الواقع لا الداخلي الأمريكي ولا العالمي ولا في منطقتنا ، إنه لايخرج عن كونه ترقبا حذرا أمام جملة من الحركات بالغة الذكاء والحنكة والكياسة واللياقة الأخلاقية قام بها الرئيس الأمريكي الجديد على رقعة شطرنج عالم مازال مبهورا بقدرة هذا اللاعب على قلب الصورة رأسا على عقب.
مائة يوم كان فيها "أوباما" على رأس الهرم السياسي الحاكم في الولايات المتحدة ، بما جلبه للعالم معه من آمال عريضة ، وتوقعات مفرطة في التفاؤل ، لايمكنها وحدها أن تكون حَكماً على قدرة الرجل الفعلية على التغيير . لكنها كانت جديرة حقا بالتأمل لأنها في واقع الأمر كانت فترة قياسية استطاع فيها ومجموعته الحاكمة أن يغيروا "صورة" الولايات المتحدة في زوايا كثيرة ، ومائة يوم تعتبر وبكل المقاييس رقما استثنائيا في هذا المجال.

كثيرون على سطح هذا الكوكب ، وخاصة في أوربة والمنطقة العربية ، مازالوا في حالة من الوجوم والارتباك أمام هذا التحول الاستعراضي في "الصورة" الجديدة للولايات المتحدة الأمريكية ، صورة براقة على مسرح "عودة التاريخ ونهاية الأحلام" ، وهذه العبارة هي عنوان جد ّملفت لكتاب هام ألفه اليميني المحافظ "روبرت كاجان" واستعرضه الأستاذ الباحث "علاء البيومي" في موقعه الالكتروني ، (عودة التاريخ ونهاية الأحلام) ، إنه عنوان استثنائي لكتاب استوت فيه أهميته البالغة بأهمية عنوانه  ، ذلك أن الادارة الأمريكية المحافظة بَنَت أوهام سطوتها على العالم والتي شنت بسببها حروبا دموية مأسوية ، على التزام نظرية " نهاية التاريخ" لفوكوياما ، التي انتشرت في العالم انتشار النار في الهشيم ، وأصبح تأثيرها في السياسات الغربية الأمريكية منها والأوربية تأثير أحاديث المسيح الدجال وعلامات الساعة في عقول مسلمي القرن العشرين !.
لقد أسست العولمة لمنظومة فكرية روجت لها وسائل الإعلام ورجال الفكر والأدب والصحافة والسياسة ، وكأنها كلام منزل لايأتيه الباطل من بين يديه ولامن خلفه ، واستخدمت ديكتاتورية الديمقراطيات لتجعل من جناحي العولمة : الرأسمالية  والقيم "الحضارية" الغربية ، رأسا حربة تضرب في هذا العالم ذات اليمين وذات الشمال ، باطشة بكل من تسول له نفسه مخالفتها أو نقدها أو الخروج عليها ، أو حتى مجرد التشكيك فيها ، وجندت لذلك جيوشا من أصحاب الأقلام والضمائر المأجورة في كل المجالات وفي كافة دول العالم ، لكن حقبة القطب الأوحد الذي يريد أن يسيطر على مقاليد العالم انتهت ، لم تنته بقدرة شعوب العالم على الرفض والتغيير ، ولكنها انتهت بآلية التآكل الذاتي التي أتت في حينه على الديناصورات فاجتثتها من على وجه الأرض ، فذهبت كما أتت ، ولم تبق إلا أحاديث ، لولا "الكربون المشع 14" لم يحس بها من أحد ولم يسمع لها صوتا مترددا مخترقا بالعلم غبرة الأحقاب المنصرمة.

هذا بالطبع لم يحدث مع الرأسمالية العالمية ، ولن يحدث – على المدى القصير على الأقل- إذا مااستطاعت النخبة المؤسسة للفكر الحاكم في الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي أن تعيد صياغة نظريات تحكم رأس المال بالإنسان ، وهذه إحدى أهم المهمات الخطيرة التي تنتظر أوباما وإدارته ، مهمة تاريخية لايمكن الاضطلاع بها إلا بمساعدة أمم العالم كلها للبحث عن بدائل ليس في مجال الاقتصاد فحسب ، ولكن في مجالات القيم الإنسانية التي تؤسس لهذا النظام الاقتصادي والاجتماعي العالمي الذي يمكن أن يتمخض عنه هذا التغيير الملفت الذي نشهده على مسرح السياسة الأمريكية ، والذي لم يخرج في هذه الأيام المائة عن كونه أداء مسرحيا بامتياز يحتاج من العالم أن يدخل الكواليس لرؤية التجهيزات الحقيقية التي تدفع بهذا العرض نحو واجهات السياسة العالمية.
من الأمور الغريبة التي تجوب محافل صناعة الرأي في المنطقة العربية اليوم ، مناقشة قدرة أوباما على حلّ مشكلة "الشرق الأوسط" ، والتي أغرب منها إصرار صناع الرأي من العرب على تسمية المنطقة بالاسم الذي أطلقته عليها الادارات الأمريكية- الأوربية في عصور سقوطنا الحضاري والإنساني ، وأغرب الثلاثة إصرار البعض منا على اعتبار أن مفاتيح حل ّ المعضلة الفلسطينية هي دائما بيد غيرنا ، ضاربين صفحا على أنه لاأوباما ولابوش ولاحسون ولا طرزان بإمكانهم تقديم أي حلّ لأمة تمتلك وحدها مفاتيح الخلاص مما هي فيه!! لكنها نسيت أين خبأت هذه المفاتيح في لعبة الاستغماية الحمقاء التي لعبتها خلال مائتي عام!.
مشكلة فلسطين ليست مشكلة خارجية ، وليست مشكلة الشعب الفلسطيني وحده ، وليست مشكلة بلاد الشام ومصر حيث تقع بينهما ، إنها مشكلة أمة تعيش حالة فلسطينية باستثناء من محيطها إلى خليجها ، حالة من الانهيار الداخلي والشقاق والنفاق والانحطام الإنساني الذي أدى بها إلى استساغة الذل والهوان ، فلم تستطع أن تضرب على يد مستبد ، ولم تستطع أن توقف زحف الاستعمار عبر نوافذه التلفزيونية والالكترونية ، ولاعبر بوابات الغزو بطبعته الأخيرة التي أطلقوا عليها اسم "مكافحة الارهاب" .


مائة يوم من حكم أوباما وفريقه لاتكفي لمنح الرجل أوسمة استحقاق ، على الرغم من أن سلوكه أمام العالم كان جديرا ومايزال بالاحترام ، سلوك رجل مثقف مطلع على ملابسات السياسة والثقافة والفكر ، ومقارنة بسلفه ، فإن العالم يجد نفسه أمام أستاذ جامعي رفيع الأخلاق أنيق الفكر بعدما حكمه صبي فاسد مدلل جاهل ، الكرة الآن في ملعب العالم ، كما هي في ملعبنا ، لقد قدم أوباما ومن ورائه فريقه كل أطروحاته وتصوره عن حقبة سياسية يمكن أن تكون مختلفة ، فماذا في أيدينا لنقدم غير الندب والجعجعة والانبطاح على عتبات بلاط القيصر الأسمر الجديد نستجديه حلولا ، نستجديه حرية ، نستجديه كرامة ، ومكانة محترمة بين أمم الأرض ؟!.
لقد عاد التاريخ من رحلته الفوكويامية ، ووجدت الولايات المتحدة نفسها وجها لوجه أمام حقيقة إمكانية إفلاسها الاقتصادي والقيمي ، فهي الآن في محاولة حثيثة لبناء جدلية معاصرة تمكنها من أن تبقى في مكان القيادة والرياسة بين أمم العصر ، فأين هو مكان "العرب" في هذه الملحمة الإنسانية السياسية الفلسفية الاقتصادية ؟ إنهم في الساقة !! وهي على كل حال ليست ساقة الحراسة وخدمة الركب والسهر عليه ، ولكنها وللأسف ساقة الاتكال والارتكاس والإخلاد إلى مانحن فيه من استعباد بعضنا بعضا ، وظلم بعضنا بعضا ، استعباد لايمنع الوالد من استعباد ولده ، وظلم لايمنع أميرا من تعذيب خدمه ، فأين هو مكاننا في عالم اليوم ؟!، وماذا نحن فاعلون بالكرة التي رماها أوباما وإدارته في مرمانا خلال الأيام المائة الأولى من تسنمهما إدارة شؤون هذا العالم الذي لسنا فيه إلا أصفارا على شمال أعداد براميل بترولنا ، الذي يتدفق يوميا في  شرايين مدنية مازلنا نتسول فيها مكاناً ، دون أن نعرف أن مكاننا الحقيقي محفوظ تحت شمس ثورة نحدثها في أنفسنا تخرجنا مما نحن فيه.
 

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

nashiri logo clear

دار ناشري للنشر الإلكتروني.
عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

 

اشترك في القائمة البريدية