"المنطقة العربية" مصطلح أصرّ على استعماله بديلا عن مسمى "الأمة العربية" ، منذ سقوط بغداد مطلع القرن الواحد والعشرين على يد الغازي الأمريكي الطامع ، بالتعاون مع فئات لايستهان بها من الشعب العراقي  الذي كان مسحوقا بين كماشتي استبداد السلطة وارتكاس الشعب! ، وكلاهما مرضان يستويان في القبح والتوحش ينتشران انتشار النار في هشيم مختلف مجتمعات بلدان هذه المنطقة الممتدة من البحرين على شواطيء "الخليج الاسلامي" شرقا وحتى طنجة على ضفاف الأطلسي غربا ، فما يصنعه المستبد بالشعب ، أي شعب ، من سلب للحريات ، وامتهان للكرامة ، وتدمير لإنسانية الإنسان ، يستوي بما يفعله الشعب بنفسه وبأفراده !، كارثة الاستبداد لاتصاب بها إلا الأمم التي ارتكست إلى الأرض ورضيت لنفسها الدنية ، وباتت حياتها سلسلة بشعة من الانبطاحات والهوان والذل والسكوت على الظالم ، سواء كان أبا ووالدا أو أخا كبيرا في الأسرة ، أو شيخا ومعلما في المسجد والكنيسة والمدرسة ، أو بائع خبز أو فول في الحارة ، أو شرطيا أو قاطع تذاكر في الحافلة ، أو مقدم برنامج في الاذاعة والتلفزة ، أو مسؤول "أمن" مخابراتي أو حكومي .
سلسلة الظلم لاتحكم خناقها حول الأعناق ، حتى تكتمل حلقاتها في دورة كاملة ، من أهم مراحلها وأكثرها لفتاً للنظر انحناء الأعناق صاغرة لتطوق بها !.
يعتبر الظلم والاستبداد اليوم صفتين لازمتين لدى الإشارة إلى "العرب" بشكل خاص في محافل السياسة والفكر والأدب والثقافة  والبحث في العالم ، وإلى المسلمين بشكل عام ، لكن الربط بين العرب والاسلام منتسبين الى صفتي الاستبداد والظلم بهذه الطريقة حقيقة مشوهة دأب الغرب على التعامل معها وكأنها حقيقة ثابتة ، فلا العرب هم المسلمون ، ولايمثلون وحدهم الاسلام ولا المسلمين على سطح هذه الأرض، ولاهم وحدهم سكان هذه المنطقة من العالم ، وذلك على الرغم من أنهم بلغتهم القرآنية ، وانتمائهم الحضاري التاريخي العريق كانوا ومازالوا عنصرا إنسانيا هاما من مكونات "الأمة الإسلامية " ، تشترك معهم في ذلك وعلى قدم المساواة كل الشعوب التي تقطن المنطقة ، تتحدث العربية الفصحى ، وتتمسك بالأسس الأخلاقية الإنسانية لتلك الحضارة ، سواء كانت عربية أم غير عربية ، وسواء كانت مسلمة أم غير مسلمة.
لايشكل "العرب" في المنظومة الاسلامية العالمية أكثر من 10% من مجموع المسلمين في العالم ، حسب جميع الإحصائيات الرسمية والغير الرسمية ، العالمية منها والعربية ، مسلموا الهند فقط يفوق عددهم أعداد البشر الذين يقطنون "المنطقة العربية"، التي يسكنها العرب والأكراد والتركمان والشركس والأمازيغ ، وغيرهم كثير من الأقليات العرقية ، كما أن هؤلاء الأقوام المتواجدين في المنطقة العربية ، لايدينون جميعهم بالإسلام ، وإنما بالاسلام والنصرانية واليهودية وبعض الديانات القديمة التي مازال أهلها متمسكين بها في بعض بلاد الشام وفي جنوب السودان واليمن ومناطق أخرى ، فضلا عن الطوائف المتعددة المشتقة والمنشقة عن الرسالات الالهية الثلاث الرئيسية ، والتي من أهمها الشيعة والدروز والنصيريين والإباضيين ، وعشرات من الفرق الدينية المنتشرة في مختلف دول المنطقة .
ولقد عانى أتباع  كل هذه الرسالات والأعراق والطوائف في زمن ما من تاريخ المنطقة من الاضطهاد والإقصاء والتغييب والتعذيب ، واختصر بعض غير المنصفين تاريخ هذه المنطقة من العالم إلى تاريخ حروب دينية طاحنة ، بل أبعد من ذلك لقد ارتكزت المخططات الغربية المعروفة لإقامة دولة "اسرائيل" اليهودية في فلسطين ، بشكل أساسي  على هذه الفسيفساء الدينية والعرقية في منطقة "الشام" بالذات ، وهي التي تضم تاريخيا وجغرافيا سوريا والأردن وفلسطين ولبنان ، والتي أصبح اسمها في قواميس اليوم السياسية  والاستراتيجية "منطقة الشرق الأوسط" ، ثم ألحقت بها دوائر الدول الحدودية معها فأصبحت واسمها "الشرق الأوسط الكبير"!.

بعد سقوط بغداد الأخير ، أصيبت "الأمة" بزلزال عنيف ، زلزال في قناعاتها ، زلزال في رؤيتها لنفسها ، زلزال في تصورها لماضيها وحاضرها ، زلزال في وعيها لوجودها ، وإدراك أبعاد هويتها ، لقد كان الغزو الغربي للعراق بمثابة الصفعة الأخيرة التي تلقتها "الأمة" على وجهها لتستيقظ من سباتها ، ولكن في نفس الوقت ليقف الدور التهريجي الرنان الذي كان يقوم به بعض أصحاب السلطات السياسية والعسكرية "الثورية"  عن طريق جيوش من مرتزقة السلطة من أصحاب الفكر والقلم ، ممن كانوا يتحدثون ليلا ونهارا من خلال إعلام موجه مدروس لترسيخ الفكر القومي ، لأمة عربية واحدة ، ذات رسالة خالدة ، خطاب دؤوب اختزل وجود المنطقة كلها في "الأمة القومية" ، التي بدا أن محورها الرئيس هو "القضية الفلسطينية" ، التي سُلخت مع الوقت عن "الأمة الاسلامية" ، وأصبحت أيام النكسة  قضية خاصة بالعرب وحدهم لاعلاقة لايران ولاتركيا ولاأفغانستان ولاباكستان بها!!، وذلك قبل أن تنتقل في  مرحلة الحرب الأهلية اللبنانية  فتصبح جزءا من مسألة أسموها  "الشرق الأوسط" ، ومن ثم لتدخل في أوسلو قوقعة "الفلسطنة "!، فتكون قضية خاصة بالفلسطينيين وحدهم ، بعد  أن ترَسَخ تقطيع أوصال البلاد ، وحيل بين اتصال العباد فيها ببعضهم البعض ، ووقفت جيوش مسلحة باسم "القضية العربية الأولى"  لتحرس الحدود أن تخرقها مجرد ذبابة تزعج بطنينها الكيان الاسرائيلي المغتصب ! ، وأخيرا وتتويجا لهذه السلسلة صارت قضية فلسطين حكرا على السلطة الوطنية الفلسطينية ، قبل أن تعود الى الحضن العربي والاسلامي إبان الانتفاضة الأخيرة ، لتدخل من جديد وعلى هامش هذا المخاض الشديد دوامة الصراع الفلسطيني "القومي – الاسلامي"، الذي يمثل وبصورة استثنائية وبامتياز حالة الصراع الأساسي في هذه المنطقة من العالم خلال القرن العشرين .

بينما كانت الحكومات الثورية التقدمية تقوم بذلك الدور مدّعية دفاعها عن "القضية" ، محاولة تعريب المنطقة عن طريق سحل وتمزيق وإبادة الأقليات العرقية ودمجها إرغاما في بوتقة "مجتمع عربي" ، يحاول أصحاب السلطة المهيمنة فيه اجتثاث الانتماء العرقي من قلوب الناس بقوة النار والحديد بعيدا عن مكونات الهوية الحقيقية التي تجمع كل شعوب المنطقة في بوتقتها ، كانت الطائفية تشق طريقها لتأخذ دورا بالغ الخطورة في بعض دول المنطقة ، حيث كان الترويج للفكرة القومية يقوم بدور خفي في التمكين لهذه الطائفة هنا ، ولتلك العقيدة هناك ، ويذبح طائفة هنا ويمكنها من مقاليد الحكم هناك ، سائرا بالمنطقة نحو هاوية حقيقية نعيش اليوم بعض ملابساتها فيم قبل السقوط الأخير .
في الآن ذاته  كان جناح "الأمة " الآخر يدندن دون هوادة حول مسمى "الأمة الاسلامية " ، التي ذابت في بوتقة الحديث عنها قضية فلسطين ذاتها ، فأصبحت واحدة من سلسلة طويلة من القضايا الاسلامية التي مافتيء الإعلام الاسلامي يصر على  "الندب" المتواصل عليها ، وليس إلا أن تسمع بعض خطب الجمعة من بعض أهم المنابر الإسلامية الرئيسية في المنطقة قبل خمسة عشر عاما ، حتى تتأكد من هذه الحقيقة ، لقد كانت قضايا شعوب اسلامية كأفغانستان والشيشان وكشمير والبوسنة والهرسك وكوسوفا بالنسبة لهذه الدول تساوي القضية الفلسطينية ، بل تتفوق عليها في الأهمية ، ولقد كان بعض هؤلاء الأئمة يدعون لهذه الشعوب بالفرج والنصر والتمكين ، بينما لايرد اسم فلسطين إطلاقا في خطبهم ولا في دعائهم ، الأمر الذي اختلف جذريا بعد انتفاضة الأقصى الأخيرة ، وبعد سقوط برجي نييورك يوم الحادي عشر من سبتمبر ، حيث توقف الدعاء لهذه الشعوب الاسلامية المنكوبة ليحل مكانه الدعاء للمستضعفين في الأرض بشكل عام ، ولأهل فلسطين ، وأحيانا العراق بشكل خاص! .
لقد وصل هذا الصراع العقائدي بين الطرفين ذروته في زمن غابت فيه القيادات الشعبية عن الساحة تماما ، وباستثناء العلامة الدكتور القرضاوي فقد غابت كذلك القيادات الفكرية الدينية القادرة على صياغة نظريات جديدة للأمة في هذه المنطقة ، تخرج الناس من هذا التخبط والضياع ، الذي تجلى بانهيار القناعات القومية لدى شرائح واسعة من مؤيديها ، وانتهاز الأقليات الدينية والعرقية فرصة غزو العراق للاستعانة بالغازي الدخيل للخروج من النفق الذي وضعتها فيه الأنظمة الثورية القومية باستعمالها وسائل غير انسانية لفرض صيغة قومية  في منطقة تسكنها عشرات القوميات ، في الوقت الذي  فشل فيه الإسلاميون من جهتهم وفي منطقة "الشرق الأوسط" على وجه التحديد في تقديم أي بديل سياسي أو فكري ، أو أية حلول ناجعة للمشكلات الاجتماعية الخطيرة التي تعاني منها هذه المنطقة ، وتجلى ذلك كله في صراع مرير على السلطة بين الجهتين ، صراع تمخض بعد نصف قرن من المذابح المتبادلة بين السلطة والمعارضة ، عن دخول المنطقة كلها في متاهة البحث عن الهوية ، بينما تدار هناك على الأرض المقدسة معركة حقيقية بين الاسلاميين والقوميين ، أدت بهما إلى تقسيم ماتبقى من فلسطين ، ليس بأيد إسرائيلية صهيونية ، ولا بمؤامرة غربية صليبية ، ولاشرقية شيوعية ، ولكن بأيد فلسطينية – فلسطينية ، في سياق البحث عن الذات .
 حالة فلسطينية لم تكن ولن تكون قط خاصة بأهل الأرض المحتلة ، ولكنها حالة منطقة كاملة ، تمور بدياجير الأفكار التي أكل عليها الدهر وشرب ، دون أن تتمكن من العثور على بصيص نور يمكنها من  إعادة رسم معالم هويتها بعد قرن كامل من رحلة عسيرة شاقة للبحث عن مخرج.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

nashiri logo clear

دار ناشري للنشر الإلكتروني.
عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

 

اشترك في القائمة البريدية