حينما يذكر الفلسطينيون القضية بكل أبعادها وتداعياتها المأساوية ، تتبادر الى اذهانهم بريطانيا العظمى ، ذلك أن القضية تعود جذورها الى اليوم الثاني من شهر تشرين الثاني من العام 1917 ، يوم أصدر وزير خارجية بريطانيا آنذاك اللورد بلفور وعده المشؤوم . ويومها كانت قوات الامبراطورية البريطانية المنتصرة في الحرب العالمية الاولى قد بدأت تدخل فلسطين لتعلن عليها انتدابها الذي استمر من العام 1918الى العام 1948 ، وتحديدا اليوم الخامس عشر من شهر أيار .
وعلى مدى ثلاثين عاما من انتدابها ، وظفت حكومة بريطانيا العظمى وعدها على أرض الواقع ، وترجمته الى حقائق لا تمت بصلة إلى الحق الفلسطيني . فما ان أطل يوم الخامس عشر من أيار 1948 ، حتى كانت الدولة اليهودية قد اعلنت علىالجزء الأكبر من أرض فلسطين التاريخية .
وفي المقابل تم اقتلاع مئات الآلاف من الفلسطينيين من وطنهم التاريخي وتدمير المساحة العظمى من تجمعاتهم السكنية ، لتقام على آثارها البلدات والمستوطنات اليهودية ، وليصبح جل هؤلاء الفلسطينيين شعبا مهجرا منفيا خارج حدود وطنه التاريخي . وهكذا أفرزت هذه القضية احدى اخطر افرازاتها متمثلة بالنكبة الفلسطينية التي ما زالت قائمة حتى الآن.
صحيح أن الزمن قد تقادم على هذه القضية ، الا أن مسؤولية بريطانيا عما حدث للشعب الفلسطيني من ويلات وكوارث ومآس ، لا يختلف عليها اثنان ، ولا يلغي هذه المسؤولية وما يفترض أن يترتب عليها . وبرغم ذلك كله فان أخطر ما ارتكبته بريطانيا انها غضت الطرف عما فعلته ، أو أنها بصحيح العبارة نفضت يدها من أية مسؤولية تجاه الشعب الذي شردته وتسببت في معاناته طوال عقود القرن العشرين المنصرم ولا تزال .
وفي هذه الايام بالذات ، وبعد احتلال بقيته ، يتعرض الوطن المحتل إلى الاجتياحات الاحتلالية التدميرية التي تقوم بها قوات الاحتلال الاسرائيلي في الاراضي الفلسطينية المحتلة سواء في القطاع أو الضفة ، ناهيك عن مشاريع الإستيطان الإسرائيلة التي ابتلعت الجزء الأكبر من الأراضي الفلسطينية . وها هي القدس كادت يتم تهويدها ، والأقصى المبارك يتعرض إلى أشرس الهجمات ، وجدار الفصل قارب على الإنتهاء .
وإزاء هذا كله ، طلع علينا رئيس وزراء الحكومة العمالية البريطانية الأسبق السيد طوني بلير بدعوته لعقد مؤتمر افترض الفلسطينيون يومها أنه مؤتمر دولي لبحث القضية الفلسطينية من جذورها بغية ايجاد حل عادل ومنصف لها ولشعبها الذي حاق به ظلم تاريخي جراء السياسات البريطانية الامبريالية .
الا أن المفاجأة الكبرى فيما يخص هذا المؤتمر تمثلث في ان السيد بلير في نطاق زيارته لاسرائيل والاراضي الفلسطينية ، قد أعلن أن الهدف من عقد هذا المؤتمر الذي تبين أنه مجرد اجتماع ليس أكثر – وقد قللت الصحف البريطانية من اهميته – التي تمثلت في مجرد تأهيل الفلسطينيين للمفاوضات التي لم تبصر النور حتى الآن ، ومساعدتهم على اجراء اصلاحات داخلية لها علاقة وثيقة بهذه المفاوضات . ولم يتطرق الى القضية الفلسطينية وتداعياتها ، فلا حديث عن انهاء الاحتلال أو حق العودة أو القدس أو الدولة أو اخلاء المستوطنات .
وكان هذا هو التحرك الوحيد الذي أبدته بريطانيا طوال ثمانية عقود من عمر النكبة تجاه القضية وشعبها . وكان الشعب الفلسطيني يأمل من بريطانيا وحكومتها العمالية ، وهي وريثة الحكومة العمالية التي منحت آنذاك وعد بلفور أكثر من هذا بكثير . إلا أن بريطانيا تصر على تجاهل القضية ، وتتنكر لحقوق الشعب الفلسطيني الذي كانت سببا رئيسا في مأساته .
وحقيقة الامر أن السياسة البريطانية قد قصدت من هذا البالون الاعلامي امورا تخص مكانتها السياسية التي اهتزت لدى الشارع السياسي البريطاني جراء الحرب غير المبررة على العراق . لقد أرادت بالدعوة الى هذا الاجتماع أن توهم من أرادت ايهامهم أنه بامكان بريطانيا أن يكون لها وزن سياسي دولي ، وأنها قادرة على طرح المبادرات ، أو أنها على أقل تقدير لها سياستها الدولية المستقلة ، وليست تابعا يدور في فلك السياسة الاميركية .
وعند هذه النقطة الاخيرة بالذات ، فان السياسة البريطانية فيما يخص الشأن الفلسطيني تكاد تتطابق مع السياسة الاميركية المنحازة انحيازا تاما للتوجهات الاسرائيلية . وفي تصور الكثيرين أن بريطانيا لو شاءت فان لها من الوسائل والآليات والمكانة والنفوذ ما يمكنها أن تؤثر من خلالها على الساسة الاميركان .
وفي هذا الصدد فإن الفلسطينيين يتذكرون ما آلت إليه اجتماعات أنابوليس ، وقراراتها التي ظلت حبرا على ورق ، ويتذكرون وعود الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الإبن التي لم يكن لها أدنى رصيد من المصداقية ، وظلت مجرد نطفة في رحم الغيب السياسي .
لقد رفض كثير من قادة الرأي والشارع السياسي الفلسطينيين هذه الدعوة البريطانية مؤكدين أن المطلوب ليس هو تأهيل الفلسطينيين ، وانما هو ايجاد حل عادل وتسوية مشرفة للقضية التي أوجدتها بريطانيا . وهذا حق للشعب الفلسطيني في أعناق الساسة البريطانيين لا منة ولا احسانا . انه التزام اخلاقي وقانوني وانساني تجاه ضحية من ضحايا السياسة البريطانية وان تقادم الزمن عليها .
أما الحديث عن تأهيل الفلسطينيين في هذا المجال أو ذاك ، فهم والعالم يشهد لهم أنهم شعب ذو كفاءات في شتى المجالات العلمية والإدارية . والادمغة الفلسطينية سواء في الوطن أو في شتى بقاع العالم مشهود لها وتتمتع باحترام الجميع . ان الفلسطينيين ليسوا قاصرين ولا هم بحاجة الى أوصياء عليهم . انهم يعرفون ماذا يريدون ، وهم قادرون على ايجاد حلول لمشكلاتهم الداخلية .
واستكمالا فان الفلسطينيين مؤهلون ومجربون ولديهم القدرات والطواقم البشرية ذات الكفاءة ، وهم علاوة على ذلك يريدون السلام من منطلق معرفتهم لما يريدون وتمسكهم بثوابتهم الوطنية ، بعكس الساسة الاسرائيليين الذي على ما يبدو أنهم هم الذين بحاجة الى دورات تأهيلية في مساق السلام والعملية التفاوضية . وليس أدل على ذلك من إصرار حكومة اليمين المتطرف الحالية من رفضها لمبدأ الدولتين .
وهذا لا يعني بأي شكل من الاشكال أن الفلسطينيين يرفضون مبدأ المشورة والمساعدة من الآخرين . الا أن هذه المساعدة أيا كان شكلها يفترض بها أن تعمل على تخفيف آلامهم ومعاناتهم ، والوقوف الى جانبهم وهم يسعون للتحرر من الاحتلال ومن افرازات نكبتهم التاريخية ، وذلك عبر الضغوط المستمرة على حكومة اسرائيل ، والضغط على حكومة الولايات المتحدة الاميركية الجديدة بغية تحقيق مثل هذه الاهداف التي هي مشروعة ، وكفلتها لهم الشرعية الدولية عبر قراراتها المتكررة التي ما زالت حبرا على ورق .
كلمة أخيرة . ان الفلسطينيين وقد حرموا طوال عقود طوال من الزمن وما زالوا من أبسط حقوقهم الانسانية والوطنية والسياسية جراء نكبتهم التي كان للسياسة البريطانية يد طولى في ايجادها وتعميقها ، يتوقعون من بريطانيا أن تعيد في العام 2009 قراءة القضية الفلسطينية قراءة تسودها روح العدالة والانصاف والحق والالتزام الاخلاقي ، وان تفعل شيئا حقيقيا لتكفر عن بعض خطيئتها وخطأها اثناء الانتداب البريطاني على فلسطين ، وهذا غيض من فيض ما يفترض أن تفعله بريطانيا تجاه الشعب الفلسطيني . وماعدا ذلك يكون اصرارا على تكريس النكبة وهروبا مقصودا من المسؤولية .