ها هو حزيران الثاني والأربعون يطوي آخر صفحة من صفحات ايامه ، ويفتح اولى صفحات عامه الثالث والأربعين . انه حزيران العام 1967 من القرن العشرين المنصرم ، وتحديدا الخامس منه . من حيث المبدأ لا فرق بين حزيران وآخر ، اللهم تراكم اهموم الفلسطينية ، وإضافة هم آخر عليها ، يحمل المزيد من المعاناة للشعب الفلسطيني .
فهذه هي الحواجز الأمنية لا تبرح مكانها . وهذا هو جدار الفصل قد أوشك على الإنتهاء . وها هي المستوطنات تفترس الأراضي الفلسطينية شيئا فشيئا . وها هو معول هدم البيوتات الفلسطينية في القدس وغيرها جار على قدم وساق . وها هي القدس أوشكت على التهويد . وها هو الأقصى المبارك ما زال يتعرض لكافة أشكال الإعتداءات وأشرسها .
إنها صورة أحداث مأساوية تتكرر صباح ، ليلا نهارا، ولا تلوح في الأفق أية بادرة سياسية ، يعول عليها اشعب الفلسطيني المقهور ، الذي ما زال يحيي ذكرى نكبته للعاة الحادي والستين ، وها هو يدخل بها العام الثاني والستين .
إنه أول حزيران من العام 1967 ، يومها مني العالم العربي باخطر هزيمة ، وبافدح خسارة في تاريخه الحديث والمعاصر . ولست هنا بصدد الحديث عن هذه الخسارة والهزيمة العربيتين تحديدا ، وانما سوف اتطرق الى ما يخص القضية الفلسطينية ببعديها الوطني والقومي العربي .
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا : هل من جديد على صعيد العالم العربي فيما يخص القضية التي كانت في يوم من الايام " قضية العرب الاولى " ؟ . وواقع الحال يجيب على الفور أن ليس هناك من جديد ، ولا تجديد في المشهد العربي الحالك الظلال ، وتحديدا فيما يخص انعدام أية استراتيجية قومية واعدة بخصوص هذه القضية .
ويظل الحدث الاكثر مأساوية يتمحور حول ما تشهده الاراضي الفلسطينية ، وما يعيشه مواطنوها على مدار الساعة من تصعيد اجتياحي احتلالي خطير غير مسبوق يحمل في طياته نوايا تصفوية آخذة في الاتساع على أكثر من اتجاه ، تحت ظلال مساحة شاسعة من التراجع العربي على صعيدي الانظمة السياسية الرسمية ، والشارع العربي العاجز عن فعل أي شيء.
لقد كان الخامس من حزيران عام 1967 وليد الخامس عشر من أيار 1948 ، وهو اضافة الى ذلك افراز خطير لواقع عربي مهلهل على كافة الصعد . الا أن أخطر هذه الصعد هو اصرار كثير من الانظمة العربية على التقوقع السيادي القطري ، والتهرب من العمل القومي العربي المشترك تحت أي مسمى تصبو اليه الجماهير العربية منذ عقود من الزمان ، ولكنها لم تحظ منه حتى الآن بأي قدر معقول يمكن تجنيده لخدمة القضايا العربية انطلاقا من اولى قضاياه وأخطرها وهي القضية الفلسطينية التي اتسعت مع الأيام تداعياتها وافرازاتها وآثارها السالبة افقيا وعموديا وفي أكثر من جغرافيا .
واستكمالا لما آل اليه المشهد السياسي العربي ، فان حزيران الاول هذا ما زال ينضح افرازات الهزيمة العربية الكبرى التي لم تجد حتى الآن من يرأب صدعها ، ويمسح جرحها ويداويه . وها هي الذكرى تطل على واقع مرير يمكن استقراؤه بكل وضوح . ففيما يخص العالم العربي ، فليس هناك ادنى شك انه خرج من ساحة القضية ، وقطع شوطا بعيدا في الابتعاد عنها .
ان القضية الفلسطينية بكل ابعادها القومية والعقائدية لم تعد من منظورعربي الا قضية شعب يفتقر الى مساعدات انسانية إغاثية ليس الا . اما القدس الشريف ، والاقصى المبارك ، والصخرة المشرفة ، فلم يعد لها ذكر في الخطاب السياسي العربي ، وهي المفترض بها انها قضايا تخص العقيدة ، والانتماء القومي العربي .
فلسطينيا ، وتحت ظلال فقدان القضية لعمقها العربي ، ثمة احداث وإجراءات خطيرة يتعرض لها ما تبقى من جغرافية فلسطين وقضيتها . ان اول هذه الاجراءات هو ذلك التصعيد المستدام الخطير الذي تشهده الاراضي الفلسطينية على ايدي قوات جيش الاحتلال الاسرائيلي في كل مدينة وقرية ومخيم من اجتياحات واقتحامات واغتيالات واعتقالات وحصارات خانقة تطال الانسان الفلسطيني . اما الارض الفلسطينية ، فما زال الجدار الفاصل ، والاستيطان وطرقه الالتفافية تلتهما شبرا شبرا .
الا ان الشعب الفلسطيني يشهد هذه منذ وطئت أقدام الإحتلال ما تبقى من أرضه ، وجراء إصراره على التمسك بثوابته حصارا محكما متعدد الاهداف ، لم يسبق له نظير ، تشارك فيه اسرائيل بتشديد وسائل احتلالها ، والولايات المتحدة بكل قوتها وجبروتها ونفوذها ودعمها لاسرائيل ، والاتحاد الاوروبي المنقاد للسياسة الاميركية ، والانظمة السياسية العربية بسكوتها ولا مبالاتها .
وعدا عن كونه حصار تجويع وافقار وحرمان وخنق واكراه على تنازلات تخص ثوابت القضية ، وابتزازا لتغيير مواقف ، فهو يمهد لاخطر ما يمكن ان تتعرض له القضية الفلسطينية منذ العام 1948 .
وكثيرة هي الاحداث والتحديات التي تلون المشهد السياسي الفلسطيني بالقتامة والكآبة . الا ان اخطرها على الاطلاق ، واشدها فتكا ما يجري على الساحة الفلسطينية الداخلية من صراع فلسطيني فلسطيني ، ينذر بكثير من العواقب الوخيمة اذا ترك يستفحل ويستشري . ان الساحة الفلسطينية منقسمة على نفسها ، ولم تعد رؤاها متحدة ، ويخشى لا سمح الله ان تتطور الامور الى صدام دام بين الاشقاء واصحاب القضية الواحدة . وهذا ما يراهن عليه اعداء القضية ، وسبق ان راهنوا .
في الذكرى الثانية والأربعين لحزيران الأسود بكل ما تحمله من شجون واشجان واحزان وذكريات وتاريخ طويل من منظومة رفض وتمرد واصرار وتحد وتصد ونضال فلسطينية ، فان الفلسطينيين يتساءلون هل هي قضيتهم وحدهم ؟ . هل القدس قضية سياسية فلسطينية ؟ . أم انها بأقصاها المبارك وصخرتها المشرفة جزء لا يتجزأ من العقيدة الاسلامية والتاريخ العربي الاسلامي ؟ . والسؤال الذي يظل مطروحا وينتظر جوابه اذا كان هناك من مجيب : هل يعقل ان يترك الفلسطينيون وحدهم دون العالمين العربي والاسلامي في معترك النضال من اجل فلسطين التاريخ وقدس العقيدة ؟ .
ان الفلسطينيين يعلمون يقينا ان بامكان العالمين العربي والاسلامي ان يفعلا أكثر بكثير مما فعلاه حتى الآن ، فلديهما الوسائل والامكانيات والموارد لذلك . وهما مطالبان وبخاصة العالم العربي بحد معقول من وحدة الصف والهدف والعودة الى ثوابت القضية القومية .
انه من خلال جامعته العربية وانظمته السياسية مطالب بأمرين هامين . أولهما أن يعيد قراءة النضال الفلسطيني بروح قومية ملتزمة ، ومن منطلق واحد هو شرعيته وعدالته ، واستحقاقاته القومية . واما الامر الثاني فهو على صعيد العلاقة مع الولايات المتحدة ، والمطلوب هنا صوت عربي واحد موحد يصل الى آذان سيد البيت الابيض أيا كان لونه .
وكلمة اخيرة ان الفلسطينيين وهم يعيشون تداعيات الذكرى السنوية لحزيران الاسود ، وقبلها بايام الذكرى السنوية لأيار النكبة ، يرفعون ايديهم الى السماء ، سائلين الله العلي القدير ان يجنبهم ويلات انشقاق الصف وعواقبه الوخيمة ، حفاظا على ثوابت قضيتهم المشروعة التي تتهددها النوايا التصفوية العدوانية المبيتة لهم ولها ، والتي تقف بالمرصاد .
والسؤال الكبير الذي يظل يردده الفلسطينيون ومعهم المخلصون للإنتماء العروبي الصادق : متى ستخلع أشهر سنة الاجندة العربية عنها أثواب احزانها وحدادها ونكباتها ومآسيها وذكرياتها الاليمة ، متى ستصبح أيام سوداء من نيسان وأيار وحزيران وايلول وغيرها شيئا من الماضي ، ومتى ستطل على فلسطين والعروبة سنوات تحمل أشهرها بعضا من الفرح والأمل والثقة بالنفس ؟ . وإن غدا لناظره قريب .