قتلت مروة وهى بالتأكيد لم تكن تدري أنها بأرض ألمانيا ستموت..
ربما تكون قد دخلت مسجد "السلام" لتصلي فى يوم من أيام حياتها المسالمة القصيرة، والأقصر فى ألمانيا، ولكنها بالتاكيد لم تكن تدري أنهم سيصلون عليها فى يوم ما فى المسجد نفسه، والذي اسمه " السلام"!
عندما رأيت مروة التى لا أعرفها من قبل، تذكرت صديقات المراسلة الألمانيات، حيث كانت صداقات المراسلة هى "موضة" جيلى فى الثمانينات، كنت أرسل أحداهن من نورنبرج وكانت تحكى لى كثيراً عن صديقها وكنت وقتها أستغرب أنها تبيت معه وتسافر وبدون إذن من والدها، لكنها أبداً لم تتحدث بسوء عن عقيدة أو ملبس أو حتى فكر، كنا فعلاً أصدقاء عن بعد، نتبادل المعلومات، وهدايا الكريسماس والعام الجديد، ونحكى لبعضنا البعض عن العادات، والسفرات، وأفراد الأسرة والأصدقاء، وهناك احترام متبادل.
تذكرت أيضاً راندة زميلة الدراسة بالمرحلة الثانوية، والتي كانت ابنة لدبلوماسي مصري، وكانت أحاديث الحجاب وقتها تنتشر بين الفتيات فى مصر انتشار النار فى الهشيم، ففي كل يوم كنا نفاجأ بإحدى صديقاتنا وقد ارتدت الحجاب، وكنا نفكر فى ارتدائه أنا وراندة، كانت منى عبد الغنى هي نجمة البوب المصري لنا كفتيات وقتها، وأصبحت نجمة الحجاب، فتحجبنا.
فى المرحلة الجامعية سبقت راندة وارتديت الحجاب، تفاجأت هي وعبّرت عن رغبتها فى أن ترتديه ولكنها كانت مترددة.. سألتني " هوه ينفع ألبسه، ولما أسافر ألمانيا فى الصيف لدادى أخلعه؟، أنا ليا أصحاب ألمان كتير وصعب الاندماج وسطهم بالحجاب، مش ح يقبلوني، أنا واثقة!"، كنت أظن أن راندة ضعيفة الشخصية، لا تستطيع المواجهة، والدفاع عن اختيارها وحريتها الشخصية، ولكن مقتل مروة أكد لى مدى الصعوبة التى كانت تعانيها مروة، وخافتها راندة .
الآن يمكنني أن أسترجع أيضاً لقطة فيلم " النمر الأسود" لتقرب إليّ صورة الموقف العدائي، يمكنني أن أتذكر الاستفزاز الذى صورته تلك اللقطة الشهيرة عندما رمى "هر" ألماني بقايا عظام دجاجة كان يأكلها فى كوب عصير "النمر الأسود" أحمد زكى .
اللحظات العنصرية ذاتها عاشتها "مروة" النمرة المصرية الشجاعة، التى كان يعتقدها "الهر" دجاجة مكسورة الجناح، أو مصابة بأنفلونزا الخنوع، وأنها ستقبل الإهانة وتسكت وتستكين وتمشي جنب سور برلين العظيم أيام عزه الذى كان!
ربما للـ "هر" بعض الحق فى تماديه فى التطاول، لأن مروة يتيمة، فأنت هناك جريمتك أنك مسلم ثم عربي ثم مصري ، وهذه تعنى"يتيم" فعلى كل إضافة سابقة، جرعة "يتم" مضاعفة، وجرعات انسانية مخصومة.
لن يسأل عنك أحد، ولن يهم أحد شأنك، ولن يأخذ أحد لك بحقك من ظالم، ولن يعبأ بك أحد، أى أحد، لا غريب ولا قريب، وهكذا كل الأيتام على موائد اللئام.
إذا كنت منهم فوحدك من الممكن أن تتلقى 17 طعنة وفى قلب ساحات "العدالة" فما بالك بخارجها؟!
ربما يكون لك الحق فى أن تتساءل أين ساركوزى الذى يهاجم التطرف فى شكل النقاب؟!
فتطلب منه العدل فى مهاجمة التطرف فى أى شكل آخر، ومن أى اتجاه آخر، ولو فى سياق أنفلونزا فهم "الآخر" والتعامل معه.
لك أيضاً أن تتساءل مستعجباً، أين وزير الداخلية الألماني فولفجانج شويبله الذى صرح منذ أشهر قليلة أيضاً، قائلاً:" إن وضع المسلمين في ألمانيا تحسن بصورة كبيرة في السنوات الأخيرة لأنهم بدءوا يشعرون بالراحة أكثر وأنهم مقبولون بصورة أكبر بعد مبادرات الاندماج و الحوار".
وأين الدراسة التى أجراها باحثون من مكتب الفيدرالية الخاص بشئون الهجرة واللاجئين في نورمبرج بتكليف من وزارة الداخلية وبالتعاون مع المؤتمر الإسلامي بألمانيا والتي أثبتت اندماج المسلمين فى المجتمع الألماني، و بشرونا بحدوث نقلة نوعية في طبيعة الشعب الألماني الذي عرف عنه الاعتداد بانتمائه العرقي إلى حد وصف بالعنصرية في كثير من الأوقات.
شخصياً أطالب الجزار- العزيز- شتيفان فولكر بالتدخل، هذا الجزار اللطيف الذى ابتكر منذ أشهر قليلة ما أطلق عليه " ساندويتش الإندماج" وهو ساندويتش الخلطة الجديدة الذى جمع فيه بين أشهر ساندوتش ألماني وهو السجق، وأشهر ساندوتش إسلامي جلبته الجالية التركية- وهى الجالية المسلمة الأكبر هناك - وهو ساندويتش الشاورمة"، فمهما تكن دوافع شتيفان الإقتصادية، الذكية- بالطبع- فلا يمكن أن يمر تصريحه فى دير شبيجل الذى قال فيه عن الساندوتش: ""سيساعد في مهمة التقريب بين المسلمين والألمان معا، ويفتح المجال لحفلات يقف فيها المسلمون والألمان معا يأكلون هذا الساندوتش دون أن يكون لأي فرد طلب خاص به يظهره على أنه مختلف عن الآخر"! لا يمكن أن يمر هكذا مرور الكرام.
الآن.. لم يتبق لوالدة مروة سوي صورة مروة العروس، إلى جوار صورة جنازتها، وإلى جوارهما مصطفي الذى سيبقي محروماً برغم وجود ساندوتش الاندماج الذى لن يسد جوعه العاطفي لأمه، والذي ربما سيحتاج زمناً طويلاً لكي يستطيع أن يتعامل مع الآخر، بدون أن يعتبر أن كل الآخر، هو ممن تبت يداه، وأن كل الآخر متواطئاً، قاتلاً لأمه ولأخيه أو أخته فى بطن أمه، قاتلاَ لكل الأسرة.