منذ الأيام الأولى للإحتلال الإسرائيلي لكامل الوطن الفلسطيني ، أوجد هذا الإحتلال إحدى أقسى وسائل العقوبات الجماعية القهرية ممثلة بالحواجز العسكرية . وها هو العام الثالث والأربعون من عمر الإحتلال قد أوشك على الدخول ، وبرغم كل المتغيرات التي شهدتها المنطقة ، ظلت هذه الحواجز قائمة ، وقد اتسعت رقعة انتشارها الجغرافي لتشمل كل منفذ ومعبر من منافذ الوطن ومعابره .

ومنذ مطلع العقد الأخير من القرن العشرين المنصرم ، أخذت تهب على القضية الفلسطينية رياح المبادرات السلمية الواحدة تلو الأخرى . وكان من المفترض لو أن النوايا الإسرائيلية كانت جادة فيما يخص العملية السلمية أن تبدأ بتغيير المشهد العام للمرافق الإحتلالية ، وأولها هذه الحواجز العسكرية الجاثمة علىصدور الفلسطينيين والخانقة أنفاسهم ، والتي كانت ولا تزال تشكل رمزا كارثيا لمعاناتهم المستدامة . 


لقد كان من المفترض أن تزال هذه الحواجز نهائيا ، وذلك كبادرة حسن نوايا ، فيما لو صدقت هذه النوايا ، أو كان هناك تفكير جاد في سلام عادل ومشرف . إلا أن شيئا من هذا القبيل لم يحدث . ومثالا لا حصرا هذا الحصار الخانق للأهل في قطاع غزة ، والذي تجاوز كونه حصارا إلى حرب تستهدف كل مرافق الحياة الإنسانية .

إن الحديث عن الحواجز الأمنية العسكرية ذو شجون وأشجان . فقد شكلت بكافة أشكالها التي أقامها الإحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية في حزيران / يونيو من العام 1967 ، أحد أخطر أسلحة هذا الإحتلال ، وأشدها شراسة وفتكا ، أشهرها في وجوه الفلسطينيين على مدار الساعة واليوم والشهر والعام ، مستهدفا النيل من روحهم المعنوية ، غير عابىء بكل إفرازاتها الكارثية عليهم ، جاعلا منها رمزا لوجوده الإحتلالي ، وفارضا إياها بقوة السلاح كعقوبة جماعية مستدامة .

على مدى أربعة عقود ونيف من القرن العشرين المنصرم ، والقرن الحادي والعشرين الحالي هي عمر هذا الإحتلال البغيض للوطن الفلسطيني ، خبر الفلسطينيون أشكالا من الحواجز العسكرية في تزايد مع الأيام ، جاوز تعدادها الخمسمائة وخمسين حاجزا ، حاصرت مدنهم وقراهم ومخيماتهم ، مضيفة أبعادا كارثية إلى خارطة وطنهم المحتل على الصعيدين الجغرافي والديموغرافي . فثمة الحواجز الثابتة الدائمة ،  وثمة الحواجز المؤقتة ، وثمة المتحركة ، وتلك الفجائية " الطيّارة " التي ليس لها مكان معين أو زمان ، وغيرها من نقاط التفتيش . لقد تعددت الحواجز إلا ان إفرازاتها الكارثية واحدة .

بداية ، لا بد من مقدمة إحصائية وتعريفية لهذه الحواجز التي أقامها الإحتلال الإسرائيلي منذ أن احتل بقية الوطن الفلسطيني في العام 1967 . لقد بلغت هذه الحواجز حسب آخر إحصائية لها ما ينوف عن خمسمائة وخمسين حاجزا . وهي حواجز عسكرية مزودة بأجهزة إلكترونية وكلاب مدربة ، مهمتها التفتيش الأمني على الأمتعة والأفراد ووسائل النقل المختلفة ، ومن يسميهم الإحتلال الإسرائيلي المطلوبين أمنيا ، وغير ذلك .

أما أهم أشكال هذه الحواجز فهي :

1. الحواجز المتحركة " الطيارة " ، وليس لها مكان ثابت ، أو زمن محدد .
2. الحواجز الثابتة ، وتكون في العادة على مداخل المدن والبلدات والقرى الفلسطينية .
3. السواتر الترابية ، وتكون في العادة على مداخل القرى الفلسطينية .
4. البوابات الحديدية ، والبلوكات الإسمنتية ، وتكون في العادة داخل المدن ، وبين أحيائها ، او تلك المقامة على جدار الفصل .
5. الحدود والمعابر ونقاط التفتيش الأخرى ، سواء تلك الدولية ، أو الفاصلة مع مناطق الخط الأخضر .
6. الجدار الفاصل ، وهو أخطرها على الإطلاق كون طوله سيبلغ عند إنهاء بنائه ما يزيد عن سبعمائة كم ، وقد أنجز منه حتى الآن عدة مئات من الكيلومترات .
7.

لقد كانت هذه الحواجز وما زالت سببا رئيسا من أسباب إيقاع كافة أشكال الأذى والمكروه والشر والضرر على الفلسطينيين ، وعلى كافة الصعد الجيوسياسية والإقتصادية والتجارية والإجتماعية والتعليمية والثقافية والصحية والنفسية . وكانت أيضا سببا رئيسا في تدهور أوضاعهم الإنسانية ، ذلك أنها جعلت من كل التجمعات السكانية الفلسطينية كانتونات معزولة عن بعضها ، أو بصحيح العبارة معتقلات " جيتوهات " محاصرة مغلقة ومطوقة .

على الصعيد الجيوسياسي اتخذ الإحتلال من هذه الحواجز وسيلة لتقسيم الوطن الفلسطيني وتمزيقه وعزله عن بعضه ، والحيلولة دون تواصل أجزائه . والمقصود هنا الشمال الفلسطيني المتمثل بالضفة ، والجنوب الفلسطيني المتمثل بالقطاع . وهو بهذا يضع العراقيل في وجه قيام الدولة الفلسطينية التي يطالب بها الفلسطينيون ، منتهجا سياسة عدم ربطهما لغايات استراتيجية تتمثل في تأمين قدر كاف من السيطرة والتحكم له . وقد لا يصدق غير الفلسطينيين أن المسافة بين قرية وأخرى أو بين المدن الفلسطينية تستغرق جراء الإجراءات المتبعة على الحواجز ساعات وساعات ، وأحيانا أياما .

وعلى الصعيد الإقتصادي فإن هذه الحواجز المقامة كانت وراء عدم تطور الإقتصاد الفلسطيني الذي عانى حالات مستدامة من الخنق والحصار ، الأمر الذي أفرز نسبة عالية من البطالة تجاوزت ال 60 % من القوى القادرة على العمل والراغبة فيه والباحثة عنه وفي ذات السياق شهدت هذه الحواجز جراء إغلاقها مئات المرات تلف المحاصيل الزراعية الفلسطينية مما أدى إلى وقوع خسائر مادية فادحة تكبدها القطاع الخاص والخزينة العامة .

وهذا يفسر بما لا يدع مجالا للشك تدهور الإقتصاد الفلسطيني ، وزيادة نسبة حالات الفقر المدقع الذي يعاني منه الفلسطينيون جراء عدم ازدهار اقتصادهم القائم أساسا على الزراعة – هذا عدا عن مصادرة الأراضي لغايات متعددة - ، وهو أمر على ما يبدو مقصود بغية النيل من صمودهم ، وابتزازهم في منظومة ثوابتهم الوطنية ، وجعلهم يعيشون عالة على ما يقدمه الآخرون من معونات مشروطة .

ولا تقف الأمور عند هذه الحدود . فالحركة التعليمية والأنشطة الثقافية والعلمية وقعت هي الأخرى فريسة هذه الحواجز التي يتحكم الإحتلال الإسرائيلي في فتحها وإغلاقها تبعا لمزاجه وهواه . ومثالا لا حصرا فقد ضاعت آلاف الساعات التعليمية التي خسرها طلاب العلم الفلسطينيون والمسيرة التعليمية في كل مراحلها ، مضافا إلى كل هذا ما لحق بالمؤسسات التعليمية من إغلاق وخسران لأيام عمل لا تعوض . وهنا فإننا ننوه إلى حواجز أقيمت مرارا على مداخل هذه المؤسسات للحيلولة دون دخولها .

واستكمالا لقد شهد العالم للفلسطينيين على الدوام إسهامهم المميز وإنجازاتهم الرائعة في حقلي الثقافة والعلوم . إلا أن هذه الإنجازات قد تعرضت مرارا وتكرارا إلى نكسات متعمدة جراء إغلاق الحواجز ، الأمر الذي أدى إلى الحد من هذه الأنشطة أو إلغائها ، أو ضعف المشاركة فيها او تقوقعها محليا ، دون ان يكون هناك تواصل على صعيد المشاركة داخل الوطن أو خارجه .

إلا أن الحديث عما تفرزه هذه الحواجز من آثار إجتماعية صحية ونفسية لا تقل أهمية عن بقية الآثار الأخرى ، بل إنها في أحيان كثيرة تشكل هما لا يمكن تجاهله أو التغاضي عنه . فعلى الصعيد الإجتماعي ، فإنها بالإضافة إلى الحصارات والأطواق الأمنية والإغلاقات وحالات منع التجوال المتكررة ، لعبت أدوارا خطيرة في تكريس عزلة الفلسطينيين عن بعضهم ، وحالت دون تواصل الأهل والأحبة والأصحاب ، أو مشاركاتهم لبعضهم في أفراحهم وأتراحهم ، وهي حقوق إنسانية لا يختلف عليها اثنان .

إن رحلة الآلام الفلسطينية لا تنتهي ، ذلك أن هذه الحواجز تفرض عليهم الإنتظار المرهق لأعصابهم ، وتجبرهم على السير على الأقدام في ظروف مناخية صعبة ، وتستهدفهم في إعاقة طواقم إسعافهم ، وفي صحتهم الجسدية بشكل مباشر . فجراء سوء الأحوال المعيشية الناجمة عن ممارسات الإحتلال ، فان الصحة العامة للمواطنين تتأثر سلبا ، ويصبح التنقل بين القرى والمدن والمدن الأخرى بغية العلاج الإكلينيكي والسريري أمرا يوميا ملحا وضروريا .

ثمة حقيقة لا يخالطها أدنى شك تخص هذه الحواجز والحصارات التي تقف للمرضى من الشيوخ والأطفال ، وللنساء الحوامل بالمرصاد . فهي من ناحية معيقة ، ومن ناحية أخرى مانعة و صادة لأي تحرك . وعلى مدار نيف واثنين وأربعين عاما منذ العام 1967 مات المئات من هؤلاء المرضى ، وأجهضت المئات من الحوامل عند هذه الحواجز على مرأى من جنود الإحتلال غير المكترثين ولا الآبهين الذين تتحكم في نفوسهم مشاعر الإنتقام والإستخفاف ، في خرق فاضح لأبسط حقوق الإنسان والمواثيق الدولية .

لقد كانت هذه الحواجز الإحتلالية التي تحاصر كل التجمعات السكانية الفلسطينية وما زالت رمزا لاحتلال بغيض مفروض بالقوة الغاشمة . إن الممارسات اللاإنسانية التي يعامل بها الفلسطينيون عندها ما هي إلا سيناريو يومي مادته منظومة عقوبات جسدية ونفسية مخطط لها ومبرمج . وهي تتنافى مع كل الشرائع السماوية والقانونية الأرضية ، والأهم من ذلك أنها لا تشكل مدخلا أو منطلقا لأية عملية سلمية محتملة ، كونها ملتفة على طريق السلام العادل والمشرف ، ولا تحمل في ثناياها بذور أي سلام أيا كان شكله .

شاعر وكاتب فلسطيني

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

nashiri logo clear

دار ناشري للنشر الإلكتروني.
عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

 

اشترك في القائمة البريدية