تنعقد الجمعية العمومية التابعة لمنظمة الأمم المتحدة هذه الايام في اطار انعقادها السنوي المقرر له في شهر إيلول / سبتمبر من كل سنة ، في نيويورك حيث مقرها الدائم . ويأتي هذا الانعقاد السنوي الذي تحرص كثير من دول العالم على حضور جلساته ، ممثلة باعلى مستوياتها السياسية ، تاكيدا منها على ما يفترض به ان يكون التزاما بمبادىء الشرعية الدولية ، والانتماء الى هذه المنظمة الدولية .

ويأتي هذا الانعقاد هذا العام في غمرة غرق العالم في خضم مشكلات خطيرة نجمت عن ما تسميه الولايات المتحدة الحرب على الارهاب ، والازمة المالية العالمية الخانقة ، وازمة دارفور ، والحرب الاهلية في الصومال ، وتفشي كثير من الامراض الفتاكة في شتى ارجاء العالم ، وتفاقم مشكلات الفقر والامراض ، وافرازات الاضرار الناجمة عن الاحتباس الحراري الذي يتهدد امن العالم البيئي والحضاري ، وغيرها الكثير . وتظل مشكلة الشرق الاوسط الناجمة عن القضية الفلسطينية الموضوع القديم الجديد منذ ثلاثة وستين عاما ، والتي لم يوجد لها حل حتى الآن .

ونحن الفلسطينيين تهمنا مشكلات العالم بدرجة ما او اخرى . الا ان ما يهمنا في الدرجة الاولى هو القضية الفلسطينية . ونحن لا ننكر ان هذه القضية قد حظيت بمساحة شاسعة من فعاليات المنظمة الدولية ومداولاتها ، وحظيت بأعلى نسبة من الانعقادات والاجتماعات والتفاوضات والمؤتمرات واللجان والزيارات وغيرها على شرفها . ان أية قضية أخرى لم تحظ لا قبلها ولا بعدها بمثل ما حظيت به من وقت وجهد ، سواء كان ذلك في مجلس أمنها او جمعيتها العمومية او مؤسساتها المختلفة الأخرى التابعة لها .

وما من أحد يشك في أن هذه المنظمة قد كانت لها مواقف ايجابية ترجمت الى منظومة من القرارات المناصرة لمجمل حقوق الشعب الفلسطيني الذي عقد عليها آمالا كثيرة باستعادة هذه الحقوق ، كونه شعبا حضاريا آمن في وقت من الاوقات أن الامم المتحدة قد تأسست بهدف تدعيم أسس سلام الشعوب وحمايتها من العدوان والتسلط والاستلاب في اطار معقول من العدالة والانسانية والمساواة لكل بني البشر على السواء باعتبارها ضمير العالم وحارس شرعيته .

الا ان ما تمناه الشعب الفلسطيني شيء ، والواقع شيء آخر . والحالة الفلسطينية خير مثال على هذا الطرح . فتحت ظلال الأمم المتحدة كابد الشعب الفلسطيني معاناته التاريخية على صعيدين . اولهما مأساته المتمثلة في اغتصاب كامل تراب وطنه وتهجيره الى الشتات عبر سلسلة من الحروب شنت عليه في كل مكان تواجد فيه ، وما زال يكتب صفحاتها بدم ابنائه .

وأما الصعيد الثاني فيتمثل في مجمل علاقاته مع الأمم المتحدة . وهي علاقة أورثته المزيد من المعاناة . فالقضية الفلسطينية اصبحت حالة مزمنة ومستعصية في أروقتها . وبرغم عدالتها وشرعيتها باعتراف قراراتها ، فان واحدا من القرارات المناصرة لها لم يجد وسيلة حقيقية لاخراجه الى حيز التنفيذ . وظلت هذه القرارات حبرا على ورق ، وليس لها أقل رصيد .

ان تعامل الفلسطينيين من خلال قضيتهم مع هذه المنظمة على مدى سنوات نكبتهم قد أماط اللثام عن وجهها الحقيقي ، فبدت على صورتها الحالية لا تملك حق صنع قرارها ، وان ملكته لا تملك حق تنفيذه . وان الدور الذي كان يؤمل ان تلعبه قد صودر منها فأصبحت والحال هذه مسيرة لا مخيرة .

ان الفلسطينيين يدركون وعلى خلفية ردود افعالها منذ حرب حزيران في العام 1967 ان الأمم المتحدة قد وقعت رهينة الهيمنة الاميركية التي عطلت كل قراراتها المستحقة فاصبحت دون ادنى شك في المدار الاميركي . وها هي الولايات المتحدة الاميركية تنفرد بالاستحواذ على هذه القضية ، وتخضعها لمنظورها السياسي بكل حذافيره . وما الرباعية التي أوجدتها الا خير مثال على انقياد الامم المتحدة التي هي عضو فيها ، للولايات المتحدة .

وهكذا فان سياسة هذه المنظمة أصبحت تتقاطع مع مجمل السياسات الاميركية المنحازة انحيازا استراتيجيا قلبا وقالبا الى اسرائيل . وبغض النظر عن انسياق هذه المنظمة وراء الادعاءات الباطلة في وصف معظم فعاليات النضال الفلسطيني على أنها ضرب من الارهاب والعنف ، ومساواتها غير الموضوعية ، وغير المعقولة ، واللامبررة بين المعتدي والمعتدى عليه .

واحقاقا للحق ، فالشعب الفلسطيني لا ينسى العديد من القرارات المنصفة ، وشبه المنصفة للقضية واهلها ، ومنها القرارات التي تحمل الارقام " 194 ، 242 ، 338 " ، التي اصدرها مجلس الامن في حينها ، وعشرات القرارات التي اصدرتها الجمعية العمومية على مدار ما ينوف عن ستة عقود من عمرها . الا ان هذه القرارات ظلت حبرا على ورق ، ولم تجد لها وسيلة على ارض الواقع . ومن المؤكد ان العلة تكمن في الذين صادروا دور هذه المنظمة ، وجيروه لمصالحهم الخاصة ، وارضاء لحلفائهم الاستراتيجيين .

وعودة الى الجمعية العمومية وانعقاد دورتها الرابعة والستين . لقد كان من المفترض والمنطقي ان تتولى الامم المتحدة ادارة كل ما يمت الى القضية الفلسطينية بصلة ، وليس المقصود ادارة شؤون اغاثة اللاجئين الفلسطينيين فحسب ، او مجرد الاستماع الى خطب المسؤولين الفلسطينيين ، وانما ايجاد الحل لمجل القضية بناء على قراراتها التي يفترض ان تكون ملزمة بكل المعايير والمفاهيم .

ان الولايات المتحدة تدعي انها تضغط على اسرائيل لتجميد الاستيطان ، الا ان ادعاءها بات مكشوفا . انها في الحقيقة تغض النظر عن مشروعاتها الاستيطانية التي افترست الارض الفلسطينية في كل اتجاه . وليس مستغربا أن عهد الرئيس الاميركي الحالي أوباما هو استمرار لعهد سابقه بوش الابن فيما يخص كل الامور المتعلقة بالقضية الفلسطينية .

ان القضية الفلسطينية حتى وان حلت مشكلة الاستيطان لا تنتهي بها . ان الاحتلال الاسرائيلي هو المشكلة الاساسية ، والاستيطان جزء لا يتجزأ منها . والمفروض ان ينتهي هذا الاحتلال بكل افرازاته الكارثية على الشعب الفلسطيني ، وما نجم عنه من مآس ومعاناة وكل اشكال الاضطهاد والتحكم .

اننا لا نجافي الحقيقة في اتهامنا لمنظمة الامم المتحدة ان قرارها عاجز عن ممارسة دوره ، او انه بمعنى ادق مصادر من قبل الولايات المتحدة الاميركية . ونحن على يقين ان هذه الاخيرة لو شاءت لمنعت اسرائيل من الاستمرار في مشروعاتها الاستيطانية ، دون ان تفرض على الانظمة العربية تطبيعا يسبق اي حل مشرف وعادل للقضية الفلسطينية .

كلمة اخيرة . ان منظمة الأمم المتحدة لا يمكن لها ان تعدل مساراتها التي اعوجت ، وانحرفت بفعل تأثيرات وضغوطات خارجية عليها . وفي ظل هذه الظروف الحالية ، فقد فقدت مصداقيتها منذ ان اصبحت تسير في المدار الأميركي . ان انعقاداتها ما هي الا حرث في البحر ، وان أي قرار تصدره حتى لو كان في صالح القضية الفلسطينية ، فهو يفتقر الى رصيد على ارض الواقع . وسوف يظل حبرا على ورق في غياهب ارشيفاتها .

ان كل هذا وغيره الكثير الكثير ، ليس له الا معنى واحد يتمثل في ان الولايات المتحدة ، قد صادرت دور الامم المتحدة ، وان هذه الاخيرة لم يتبق لها ما تقدمه للقضية الفلسطينية ، ولا لغيرها ، عدا عن تواجد غير ملزم في الرباعية التي لم تنعقد منذ امد طويل . وان غدا لناظره قريب .

شاعر وكاتب فلسطيني

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

nashiri logo clear

دار ناشري للنشر الإلكتروني.
عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

 

اشترك في القائمة البريدية