الإعلان عن نية الدكتور البرادعي ترشحه لمنصب رئيس الدولة المصري ليس موضوعا سهلا يمكن المرور عليه مرور الكرام ، كما أنه ليس بالأمر الذي يمكن تناوله في تسطيح ولامبالاة أو تهويم وتهويل كما تفعل بعض وسائل الإعلام المصرية من الجانب الحكومي أو الجانب المستقل ، كما أنه ليس بالقضية التي تخص المصريين وحدهم من دون سائر شعوب المنطقة المعنية بالفساد والاستبداد والاستعمار والغزو والاستيطان.
فالمصريون يناهز عددهم ثلث عدد سكان المنطقة العربية ، و ينتشرون في كل مكان على سطح هذه الأرض ، وقد وصلوا إلى كثير من المراكز العالمية المرموقة ، ويشغلون أكبر مساحة ممكنة من وسائل الإعلام الناطقة بالعربية ، ويتسنمون كثيرا من الجامعات والمدارس ومراكز البحث الخاصة بالمنطقة العربية والاسلام والمسلمين حول العالم ، بما لهم وماعليهم ، وبما يحملونه من ميزات استثنائية تتصل بالرغبة في العمل والخروج من عنق الزجاجة الذي وصلت إليه الأوضاع السياسية والاجتماعية والفكرية في مصر ، وما عرف عنهم في السنوات الأخيرة مما يؤخذ عليهم من أخلاق عامة فرضتها عليهم الظروف السياسية والاجتماعية والفكرية والاقتصادية التي تعيشها البلاد ، كل ذلك يجعل من موضوع البرادعي موضوعا لايختص بالمصريين ومصر وحدهم قطعا ، بل بكل انسان ينتمي إلى هذه المنطقة من العالم ، ولعله أحد الإفرازات الطبيعية لتغير سياسات الولايات المتحدة تجاه العالم ، فرجل بحجم الدكتور البرادعي لا أظن أنه يقدم على خطوة كهذه دون موافقة ودعم – وربما دفع- من الولايات المتحدة بزعامة "أوباما" اليوم ، بما يمثله الرجل من تغيير جذري في خطاب الولايات المتحدة في عالم القرن الواحد والعشرين ، وترشيح رجل بحجم البرادعي ليكون عنوانا – مجرد عنوان حاليا- لإمكانية التغيير المنتظر في مثل الحالة المصرية ، هو أقل تكلفة بالنسبة للولايات المتحدة من شن حرب بحجم الحرب التي شنتها في العراق ! ، وأكثر ذكاء في إحداث عملية التغيير من تلك العمليات الغبية التي تديرها في أفغانستان! ، وإذا كانت كل الأنظمة العربية صديقة للولايات المتحدة ، ولاتخرج عن مشورتها في كل صغيرة وكبيرة ، فلماذا لاتختار الولايات المتحدة من أصدقائها كذلك من يمكنه أن يحدث تغييرا يجعل الشعب يأمل في مستقبل أفضل من جهة ، ويخفف من حدة كراهية الولايات المتحدة في هذه المنطقة من العالم؟!!.
لاأتفق مع ماقاله الدكتور البرادعي من أن " الشعب المصري لن ينصلح حاله الاقتصادي والاجتماعي إلا إذا انصلح حاله السياسي" –صحيفة العرب 7962 / 23.2.2010 - ولا مع توجهات الذين يدعمون هذا التيار ، لأن التغيير في بلادنا لايمكنه أن يكون فعالا إلا إذا جاء من الشعب نفسه ، فسقفنا لم يخرّ علينا إلا من القواعد! ، نحن نحتاج إلى تغيير جذري في إعادة النظر في العملية التربوية ، من خلال المدارس والجامعات بدعم هائل من خلال وسائل الإعلام ، وهذه عملية بدأت في الواقع وبشكل فعلي في مصر ، حيث تمثل مصر والمغرب في الآونة الأخيرة حالتين متميزتين في المنطقة العربية من حيث الحراك الشعبي اللافت للنظر ، هذا الحراك الشعبي هو الذي مهد لترشيح البرادعي وليس العكس ، إذ لولا هؤلاء المدونيين والمدونات الشجعان الذين لاقوا من العنت والاعتقال والتعذيب في سبيل كلمة الحق التي أصروا عليها ، ماكنا لنشهد تباشير هذا التغيير تلوح في أفق مصر ، فعندما يتحرك الشعب أو قطاعات منه وبشجاعة للوقوف في وجه الظلم والانهيار العام الذي تعيشه البلاد ، فإن الأمور تبدأ فعلا باتخاذ مجرى آخر .
القضية إذن تتعلق بتعاون عنصرين هامين لإحداث التغيير أولهما يتعلق بقطاعات من الشعب تتحرك دون أن تخاف من بطش الحكومات ، والثاني من الشخصيات التي تظن في نفسها القدرة على الاستجابة لمطالب الشعب في مرحلة من المراحل ، وهذا لايمكن أن يحدث في مطلع القرن العشرين دون دعم وموافقة جهات متمكنة كالولايات المتحدة الأمريكية.
المحزن في الأمر والمؤلم ، هو تراجع موضوع القضية الفلسطينية من أولويات الحديث في قضية مصيرية كهذه قد تؤثر على تغيير مسار كثير من الأمور في طول المنطقة العربية وعرضها ، لأن الواقع المرير الذي تعيشه المنطقة أثبت بمالايقبل الشك وصول الأنظمة السياسية التي حكمت باسم القضية الفلسطينية ردحا من الدهر إلى الجدار ، الجدار الفيزيائي الحقيقي وليس الجدار الوهمي الذي كنا نستخدم اسمه كميتافورا ، أو اسقاط لشرح وجهة نظرنا . لقد تمخضت سياسات حكامنا وشخير شعوبنا وتصرفات الفلسطينيين أنفسهم عن وصول الأمة في موضوع "فلسطين" إلى الجدار ، لامبالاة ووهن الشعوب التي تقطن المنطقة العربية وانصرافها عن نصرة حقها الديني والتاريخي والإنساني في فلسطين والقدس ، ترك المجال مفتوحا للأنظمة السياسية أن تتصرف في القضية بما تفرضه عليها ضمائرها من خلال الرغبة العارمة في التمسك بالكراسي من جهة ، وماتفرضه هذه الرغبة من المرور من خلال ثقب إبرة النظام العالمي ، الذي مايفتأ داعما لإسرائيل دون قيد أو شرط باعتبارها أداته الضاربة في المنطقة لحفظ مصالحه الاستراتيجية والتي على رأسها ضمان هذه الأوضاع المزرية في المنطقة ليضمن بذلك تدفق البترول واستنزافه حتى آخر قطرة تحتويها بطون المنطقة.
لم تقصر الأنظمة العربية في العمل من أجل القضية الفلسطينية ، ولكنها قصرت في إشراك جماهيرها في ايجاد حل لهذه القضية ، كما بحثت ودائما عن الحلول الآنية المناسبة للمراحل بما يتناسب مع مصالحها الشخصية ومايتبع ذلك من إرضاء للنظام المهيمن عالميا .
كلنا يعلم ومعنا العالم كله أنه لايوجد حل للقضية الفلسطينية ، أو على أقل تقدير "حلٌّ" عادل وشامل في ظل الأوضاع "العربية" و"العالمية" اليوم ، ولكن على طريق معالجة القضية سقط كثيرون ، ليس أولهم الضمير العربي ، وليس آخرهم الشرف العربي ، وليس منهم فقط الكرامة العربية !، فلماذا لايبحث المصريون وغيرهم من سكان المنطقة عن حلول لأزمات الغذاء والأمن والدواء لدى الدول المهيمنة اليوم على النظام الدولي العالمي والتي يعتقد حكامهم أنها تمتلك القدرة على حل القضية ؟!!.
لم تعد مشكلة المواطن في المنطقة العربية – للأسف الشديد- وفي واقع الأمر مشكلة فلسطين والقدس ، صارت مشكلته ايجاد لقمة العيش الحر الشريف ، وكل من هذه الكلمات الثلاث مشكلة بحد ذاتها بالنسبة للمواطن العربي ، الذي فقد لقمة عيشه فذلّ بين يدي حكومات تعامله معاملة الدواب دون حرية ولاكرامة! ، ويتمثل ذلك في هذا الانهيار العام الذي تعانيه مصر اليوم ، والذي يشهده العالم على الهواء مباشرة تارة بانهيار العمارات السكنية ، وأخرى بغرق العبارات ، وثالثة بانهيار الضمائر واستفحال الغدر والخيانة والغش وسرقة أموال الشعب .
إنها حالة "عربية" عامة لاتختص مصر وحدها بحال من الأحوال ، إنما مصر هي ثلث الأمة التي تسكن هذه المنطقة فهي ممثلة عما يجري فيها ، وأهم مايجري فيها هو هذا الفساد العريض المتمثل والمتجلي في أجهزة الإعلام المنافقة المتفيهقة الثرثارة المتشدقة بأكاذيب تصل أقاصي الأرض عن الحكم والحكام والديمقراطيات وحقوق الإنسان والحيوان والنبات في بلادنا!!! ، في نفس الحين الذي تعرض علينا بعض أجهزة الإعلام التي انفلتت من قبضة النظام الرسمي حالات مخزية مؤذية عما تعيشه البلاد ومايعيشه العباد ، وهي حال يمكن تمييزها بالعين المجردة والمعاينة الشخصية البسيطة تمتد من مكة والرياض والكويت والمنامة الى دمشق وغزة مرورا بالقاهرة وطرابلس وانتهاءا بالجزائر والدار البيضاء .
موضوع الدكتور البرادعي هام وخطير ، وذلك على الرغم من أن كثيرا من المصريين الذين قابلتهم هذه الأيام يجزمون بأن الحكومة المصرية لن تترك الرجل يقوم بأية حركة في اتجاه وصوله إلى الحكم ، وعلى الرغم من أن كثيرا من الشباب "العربي" الواعي المثقف مستيئس إلى درجة قناعته التامة بأن الانتخابات المصرية سيتم تزويرها على الطريقة العربية التسعة والتسعينية المعروفة ، على الرغم من ذلك فإن حراكا جماهيريا فكريا وجدلا شعبيا واسعا حدث بسبب هذه الحركة السياسية الجديرة بكثير من التحليل والتعليق والدراسة والبحث ، والتي أحدثت آمالا عريضة لدى قطاعات كبيرة من الجماهير التي كانت تشعر باليأس المطبق حيال الأوضاع السياسية في بلاد المنطقة ، آخذين بعين الاعتبار القضية بالغة الخطورة المتعلقة بالجاليات العربية والاسلامية المقيمة في المهاجر، ودورها بالغ الخطورة في إحداث "تغيير" ليس في البلاد التي تقيم فيها فحسب ، بل في بلادها الأصلية ، في ظل جدل واسع قديم –حديث ، حول صدق الانتماء ، وازدواجية الجنسية ، وحقيقة المشاعر ، والرغبة في التغيير بعد الفرص التي حصل عليها المهاجرون من المنطقة ليشعروا بإنسانيتهم وكرامتهم ، وقدرتهم على العمل والتقدم العلمي والفكري ، ولعله حان الوقت لفتح هذا الملف الصعب الشائك ، للاستفادة من هذه الشريحة من أبناء "الأمة" لبناء الأمة ، وإحداث التغيير المرجو ، ليستطيعوا العودة إلى بلادهم بما تعلموه وماعاشوه وماحلموا به من أوطان حرة ، لن تكون حرة قط مادام الأقصى فيها مغتصبا ، ولكن ... الأقصى لن يستعاد قط مادام الإنسان فيها مغتصبا ... مغتصبة حقوقه ، كرامته ، حريته ، وحياته !