المتباكون على الأندلس وحضارتها، الحريصون على رثائها والصلاة في مساجدها التاريخية السياحية، الرائحون الغادون إلى إسبانيا بحجة زيارة الآثار الأندلسية، وأولئك المجعجعون باستعادة الأندلس بين الحين والحين، المدلون ببلاغاتهم الغبية عبر الفضائيات التي تجيد الدندنة بهذه التصريحات التي تعتبر أغبى من أصحابها، الخارجون على القانون والأخلاق والمنطق وزورا وباسم "الجهاد" الذي تم الإجهاز عليه على أيديهم!، أين هؤلاء جميعا مما يحدث تحت صمم العالم وعمى بصره وبصيرته فيما يُطَبَق في فلسطين من تفاصيل المسرحية القشتالية القديمة التي نشهد هولها في أرض فلسطين الضائعة المستباحة على أيدينا وأيدي الصهاينة، الذين خلت أمامهم الساحات من المجاهدين الحقيقيين إلا من رحم ربي، وباع الحكام القضية بأبخس الأثمان وجلسوا يتفرجون على حوبة الشعوب وتخبطها في أقذارها الاجتماعية لا يقدمون جوابا ولا يحركون ساكنا، اللهم إلا التنديد غير شديد اللهجة، والاعتراض غير عالي النبرة، ورفع الأمر إلى هيئة الأمم المتحدة، وليّة الأمر، التي لا تحل ولا تربط إلا بأمر من الصهيونية العالمية التي تحكم أربعا من الدول الخمس التي تتمتع –ولا ندري لم!- بحق "الفيتو" من دون سائر بني البشر القصر العاجزين عن الحل والربط.
كثير من الأسئلة يمكن أن تطرحها عليك رحلة تقوم بها بالقطار من مدريد حتى "الخثيراس" أو كما كان اسمها بالعربية "الجزيرة الخضراء" مرورا بقرطبة وغرناطة وماربييا، قبل أن تعبر المضيق باتجاه مدينة سبتة أو مليلية المتنازع عليهما منذ 500عام بين الطرفين، شمال المضيق وجنوبه، وهي نفس الأسئلة التي اكتظت بها رواية الأديبة المصرية الدكتورة رضوى عاشور "ثلاثية غرناطة"، أسئلة لم تخلُ منها صفحة واحدة من صفحات الرواية التي حكت حياة ثلاثة أجيال متتالية من أسرة "موريسكية"، والأسر الموريسكية هي تلك التي ثبتت في أرضها ولم ترض الرحيل أو لم تقدر عليه رغم الاستئصال والاقتلاع والزلزلة والامتحان في الأرض والعرض والمال والنفس والدين!، كيف؟! ولماذا؟! ومن؟! وبأية طريقة؟! إنها أسئلة كبيرة وخطيرة تلح على أي إنسان يسافر في ذلك الطريق ويدخل تلك المخاضة، لأن مجرد درس الشأن الأندلسي أو التفكير فيه أو استحضاره يعني أنك تبحث عن إجابات ليس لما حدث في الأندلس قبل مئات الأعوام فحسب، بل لما يحدث اليوم في فلسطين والمنطقة العربية كذلك.
ومن المدهش المعيب حقا أن تقدم لنا بعض هذه الإجابات الصورة الماثلة أمامنا في بث حي ومباشر لما يجري في فلسطين الجريحة، الضائعة بين تشرذم أبنائها، وتركهم الجهاد المشروع وتمسكهم بكراسي السلطة التي لم تمنحهم وطنا ولا كرامة ولا حرية لا في الضفة ولا في غزة، فلسطين المضيعة على أيدي عرب القضية الذين قضوا نصف قرن يندبون باسم القضية، ويتسولون باسم القضية، ويذبحون شعوبهم باسم القضية، التصقوا بالكراسي باسم القضية، نهبوا أموال الشعوب باسم القضية، سرقوا حرية الإنسان باسم القضية، هتكوا عرض الأمة باسم القضية، استلبوا كرامة الشعوب باسم القضية ولكنهم لم يفعلوا شيئا للقضية، اللهم إلا بعض المساعدات وبعض الدفع نحو خطط السلام المستعصية بعد أن فقدوا كل شيء ولم يعد أمامهم أي شيء يقايضون عليه باسم القضية إلا ولاءهم لأصحاب الشأن في واشنطن ولندن وباريس!!
أما عن الشعوب فحدث ولا حرج، ماذا فعلت الشعوب في المنطقة العربية بالقضية وأهل القضية؟ وحتى لحظة كتابة هذه السطور ما زال الزواج أو التزويج من وإلى الفلسطينيين عاراً في أكثر من بلد عربي تقدمي أو رجعي، وهذا أمر لا علاقة للحاكم فيه، إنها أخلاق المحكومين، إنها أخلاقنا نحن الذين نأكل ونشرب ونتندر بالقضية مجترين ليلا ونهارا أخبار الجزيرة ليقول الناس عنا إننا مثقفون كبار نفهم في القضية!! ناهيك عما فعله "العرب" حكاما ومحكومين بالفلسطينيين لدى نزوحهم الأول والثاني والعاشر، وكيف استقبلوهم وكيف عاملوهم وعاملوا نساءهم وأطفالهم وعزيز قومهم الذي ذلّ، ولن نستعرض هنا الهجرة بعد الهجرة، وكيف استخدمت دول المنطقة الفلسطينيين ورقة للتفاوض والضغط، يلعبون بأقدارهم من فلسطين إلى فلسطين إلى دول الطوق إلى الخليج ومصر وليبيا، ثم من دول الخليج وليبيا ومصر إلى حيث لا يعلم إلا الله.
هذه هي أندلس اليوم، فلسطين، التي تُنتَهب من ضمائرنا، وتُستَل من شرايين عروقنا، وتنزف من خلايا أدمغتنا، ونحن نتفرج ببلاهة منقطعة النظير، غارقون في تخلفنا وتمزقنا وارتكاسنا إلى الأرض، ثم.. ودون ذرة من حياء ولا خجل نسأل ونتساءل كيف ضاعت أندلس الأمس؟ وكيف دُمرت حضارتها، وكيف محي العنصر الإنساني فيها، من؟ وكيف؟ ولماذا؟، لا تكمن الكارثة في عجزنا عن الإجابة على الأسئلة المطروحة حول ما حدث قبل 500 عام، ولكن الكارثة حقيقة كامنة في عجزنا عن الإجابة على الأسئلة المطروحة أمامنا اليوم في ما يتعلق بالبحث عن طريق الخلاص ووقف المذبحة والتطهير العرقي واستلاب التاريخ والمقدسات مما يجري تحت سمعنا وبصرنا ونحن نتفرج! أمة فقدت الإحساس بالزمن، أنظمة دمرت كل قدرة ممكنة لدى الشعوب للانتفاض والكفاح، بل هو الدفاع عن النفس ومقارعة العدو، شعوب استسلمت لأقدارها وفقدت إحساسها بالحياة، تحتاج إلى إعادة نظر بمفهومها عن الحياة، جيوش نزع منها فتيل الكرامة، وأصبحت صورا متحركة لتقديم السلامات والتحيات لأولياء الأمر كلما ذهبوا إلى أوروبا للفسحة أو أميركا للعلاج. جيوش وقوى أمن لا تصلح إلا للعروض العسكرية والتمثيلات التهريجية أيام الأعياد الوطنية والمناسبات الأميرية والملكية والسلطانية والثورية والانقلابية، وبالطبع قمع الشعوب وقهرها واستعبادها وقطع ألسنتها وكسر أيديها، هذا إذا لم نتحدث عن صفقات الأسلحة التي تنفق عليها المليارات إرضاء لرؤساء الدول التي تدعم "إسرائيل" والتي تحمي "إسرائيل" والتي ترفد "إسرائيل" بالقوة والمال والسلاح، ليتم تكديسها لاحقا في أقبية الإهمال والتضييع.
المثير للألم والحسرة فعلا أنك تجد كل الإجابات مجتمعة في ما يجري اليوم في ما تبقى من فلسطين، وما يجري اليوم أعني به ما يجري يوماً فيوم منذ ستين عاماً وحتى الساعة، "الكيان الإسرائيلي" أقيم على بقايا مفهوم الشرف "العربي" السخيف، وبنى دولته على مخلفات الضمير "العربي" المتفسخ، وزحف باتجاه الفرات والنيل على جثة الكرامة "العربية" الزائفة!، ما كان لهذه الدويلة صنيعة الغرب بامتياز أن تقوم في قلب الأمة لولا أن الأمة كانت قد تفسخت وانهارت، وبلغ بها السقوط أنها ما زالت تهوي منذ سبعين خريفا في هذا الجبّ دون أن تصل قعره ولا أن تمتد إليها يد تنتشلها من هذا السقوط!
استغلت "إسرائيل" غليان الساحة الأوروبية بقضية المهاجرين والهجرة غير الشرعية، فأصدرت محاكم التفتيش العسكرية الإسرائيلية "قرار الترحيل الثالث" الذي يعتبر عارا في ضمير المجتمع الدولي، هذا إن كان لهذا المجتمع من ضمير في زمن السطوة الإعلامية الرهيبة التي تذل من تشاء وتعز من تشاء، أما بالنسبة لنا فما عاد لكلمة عار من معنى عندنا إلا ما نستأسد به في جرائم الشرف المضحكة المبكية!، مررت "إسرائيل" قرار محاكم تفتيشها هذا على هامش واقع أوروبي أصبحت فيه الهجرة غير القانونية شغل الناس الشاغل، وفي ظل تعتيم إعلامي مذهل، بحيث لا تكاد تجد الخبر إلا بصعوبة شديدة، وفي تغافل مقصود عن التذكير بأن هؤلاء المُرّحلين اليوم هم أبناء الأرض وأصحابها وأبناء أصحابها الشرعيين، ولم يكن هذا الخبر ليرد أصلا لولا حياء بعض أجهزة الإعلام خاصة من كبرى الصحف الأوروبية التي كانت معروفة قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر والحادي عشر من مارس بمناصرتها للقضية الفلسطينية، فأصبحت من الصامتين حتى لا تحسب من أنصار الإرهاب العالمي أو الدولي أو الإسلامي!! سمّه ما شئت، فلقد تسبب أولئك القوم بطعن القضية في ظهرها، وتشويه معاني الجهاد، في معارك سخيفة لم تسمن ولم تُغْنِ من جوع! ثم نرى ساحة المعركة الحقيقية منهم خالية، سمعنا كثيرا من جعجعتهم حول "استعادة الأندلس"، ولكننا لم نر منهم أي طحين يطعم أحدا من جوعنا للانتصار لقضية فلسطين وشعب فلسطين المغلوب على أمره.
إنه زمن أندلسي بامتياز، ليس أندلسي العزة والحضارة، ولكنه أندلسي الانكسار والهزيمة والرحيل والاستسلام والانبطاح، أندلسي التمزق والتشتت والسقوط، أندلسي ملوك الطوائف الفرحين بكراسيهم وسلطاتهم الورقية الهشة، أندلسي الشعوب التي أصابها الوهن والضياع بحثا عن هويتها وبحثا عن مستقبلها، إنه زمن أندلسي بامتياز، مضى منه ستون عاما وبقي لـ "موريسكيو الشرق" مائتا عام في نزعهم ومواتهم الأخير، للبحث عن الإجابات، ولينهضوا، فهنا لا مرابطون ينقذونهم، لأنهم هم المرابطون حول أفنية المسجد الأقصى، هذه الأمة هي أمة الرباط فإن تخلت عن رباطها وأسلحتها تداعت إليها الأمم، وها قد حصل، فهل من رجال تقود الناس إلى الخلاص وتوقف عجلة الانهيار العظيم هذه التي ندور منسحقين بين فكي رحاها ولا نحسن طرح الأسئلة المؤلمة لنستطيع إيجاد الأجوبة الصادقة الملائمة؟!
مضت ستون عاما على محنة الفلسطينيين، وبقيت أمامنا مائتا عام لنتفرج، ومن ورائنا أجيال أخرى ستشهد نهاية هذه المأساة الجديدة التي ستتباكى عليها الأمة ألف عام أخرى كما نبكي اليوم بدموع التماسيح ما ضاع من أندلس ما زالت تنبض في الضمائر ألما وجراحا.