بتأخير دام أربعة أعوام هي عمر حصار غزة بنهاراته ولياليه، وبكل سهولة ويسر، انتقل موكب الأمين العام لجامعة الدول العربية من رفح المصرية إلى رفح الفلسطينية، وكأنه يتجول في مدينة واحدة، هناك شاهد بأم عينه ما فعله الحصار الظالم، وما اقترفته أيدي العدوان الآثم على شعب غزة بشرا وحجرا وشجرا، في أواخر العام 2008، وأوائل العام 2009.
كان في انتظاره الكثيرون من فعاليات غزة الشعبية والسياسية الذين تأملوا أن تكون هذه البادرة من طرف الأمين العام سوف تؤدي إلى رفع للحصار في القريب العاجل، وقد فاضت عواطف أهالي الأسرى الذين تجمعوا، ورفعوا صور أبنائهم في المعتقلات الإسرائيلية، آملين أن تكون هذه خطوة يمكن أن تقود إلى تحرير هؤلاء الأبناء الذين طال غيابهم ، والحنين إليهم.
تحدث الأمين العام في أكثر من لقاء جماهيري، واعدا أن الحصار سوف ينتهي. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا بإلحاح: هل الأمين العام جاد فيما قاله، أم أنه جاء من قبيل رفع العتب، وهو مجرد كلام والسلام، سبق أن أدلى بمثيله في ذات الشأن والصدد.
في حقيقة الأمر إن موضوع الحصار لا يخص أمين عام جامعة الدول العربية، بقدر ما يخص الأنظمة السياسية العربية التي ما عادت القضية الفلسطينية بكل إفرازاتها وتداعياتها تهم هذه الأنظمة، أو لنكن عادلين إن هذه الأنظمة تنظر إليها على أنها قضية إجتماعية إنسانية، يمكن التعامل معها بمساعدات إنسانية، وببعض فتات المال، هذا إن وصل هذا المال.
لقد عرف الفلسطينيون طوال عقود من تاريخ نكبتهم المستدامة أشكالا وألوانا لا حصر لها ولا عد من الحروب عليهم. وها هو الإحتلال، تحت ظلال الصمت العربي، يضيف على هذه القائمة الطويلة من أساليبه العدوانية إغلاق المعابر، وقطع الغذاء والدواء والوقود والكهرباء عن شعبها شيبا وشبانا، أطفالا ونساء ورجالا، لعله هذه المرة ينال منالا، حاول مرارا وتكرارا أن يناله، وهو على يقين بأنه لن يناله مهما كانت التحديات.
إنها الحرب على الفلسطينيين، وليس لها شكل ولا مضمون آخر، إلا أنها الحرب. وقد أصبحت أهدافها معروفة للقاصي والداني، للفلسطيني وللعربي تحديدا. إن أي ذي بصر وبصيرة، لا يمكن أن يفسرها إلا على أنها تأتي في مسلسل المساعي لتصفية القضية الفلسطينية من جذورها، أو بصحيح العبارة ما تبقى منها، وفرض الحلول الإستسلامية على شعبها الذي أثبت على مدى خمسة وستين عاما، هي عمر نكبته، أنه غير قابل للإنكسار والهزيمة، أو التخلي عن ثوابته الرئيسة، مهما كانت تضحياته وآلامه ومعاناته. وكل ذلك يجري والعالم العربي صامت صمته المريب، يتفرج دون أدنى حراك فعلي.
إن الفلسطينيين وحدهم في المعترك. وهذه حقيقة لا جدال فيها. وإسرائيل تحاربهم على جبهات عديدة. ومثالا لا حصرا جبهة الجدار الفاصل الذي أشرف على الإنتهاء. وهو ماض في افتراس الأراضي الفلسطينية وتدميرها.
هناك جبهة الإستيطان التي ما هدأ لها هدير في توسعها الأفقي والعمودي وتسمين ما هو قائم. وهناك جبهة الإغتيالات والإعتقالات. وهناك جبهة الإجتياحات شبه اليومية. وهناك جبهة الحواجز والإغلاقات التي تتحكم بحركة البشر، فأعادت الإنسان الفلسطيني إلى عصور سحيقة، فقد فيها أبسط حقوقه الإنسانية.
هناك جبهة تهويد مدينة القدس العربية الإسلامية، وكأن هذه المدينة لا تخص سائر العرب والمسلمين في شتى بقاع الكرة الأرضية. لقد أعلن الإحتلال الإسرائيلي، وبتحد سافر للأمتين العربية والإسلامية، أنه ممض في تهويد القدس، وزرعها بالمستوطنات على اعتبار أنها عاصمته الأبدية. وهو من أجل هذا الهدف يخطط، أو أنه خطط الكثير لاستهداف الأماكن المقدسة الإسلامية.
إن هذه الحـرب على الفلسطينيين ليست جديدة، وإنما هي قديمة قدم القضية الفلسطينية، وفي ذات الوقت فهي مستمرة، الا أن وتيرتها تتباين من آن الى آخر، وقد حملت السنوات الثماني، وتحديدا منذ الإجتياح الإسرائيلي الأول للأراضي الفلسطينية في العام 2002، وحتى هذه الأيام في ثناياها من شرور الحرب وشراستها وأحقادها وتحدياتها ما لم تحمله كل سنوات النضال الفلسطيني .
ومع ذلك فهناك ما هو جديد جدا فيها وهو أنها أصبحت حربا على الفلسطينيين وحدهم دون أمتهم. ونحن لا نجابي الحقيقة، ولا نتجنى عليها حينما نقول إن الفلسطينيين أصبحوا وحيدين في الميدان، ليس لهم أي عمق عربي ولا إسلامي.
إن الفلسطينيين على يقين أن كثيرا من العرب قد أصبحوا ينظرون إلى القضية الفلسطينية من منظور سياسي قطري ضيق مجرد من بعده القومي، متجاهلين أنها ما كانت في يوم من الأيام، ولن تكون إلا قضية تاريخ مشترك ومقدسات عقيدة يفترض أنها تخص العرب والمسلمين جميعا. وهل القدس بأقصاها المبارك، وصخرتها المشرفة، وبقية مقدساتها الأخرى تخص الفلسطينيين وحدهم؟ . وهل هي مجرد عاصمة لدولتهم العتيدة؟. كلا وألف كلا، فالقدس أكبر من ذلك وأقدس وأعم وأشمل، شاء من شاء وأبى من أبى.
إلى هنا ثمة سؤال يطرح نفسه بإلحاح: لماذا يلوم الفلسطينيون الولايات المتحدة والأمم المتحدة والإتحاد الأوروبي والمجتمع الدولي برمته وهم يعانون ما يعانون من ظلم وصمت ولامبالاة وعدم اكتراث ذوي القربى، إنه المشهد العربي الذي تغير كلية، فتغيرت معه الإهتمامات العربية وتبدلت الأولويات؟ . وعلى ما يبدو، وهذه حقيقة لا جدال فيها، فإن القضية الفلسطينية قد غابت هذه الأيام عن الأجندة العربية. إن هذا يفسر بما لا يدع مجالا للشك إصرار الإحتلال الإسرائيلي على عدم رفع الحصار عن غزة، وبقية الوطن الفلسطيني هو الآخر.
عودة إلى زيارة الأمين العام لجامعة الدول العربية إلى قطاع غزة، وإلى تصريحاته أن الحصار يجب أن يكسر. في اعتقادنا أن موضوع الحصار أكبر من تصريحات الأمين العام، وأنه مرتبط إرتباطا مباشرا بإرادة دول الأنظمة السياسية العربية، وفي حالة الإنقسام التي ابتلي بها الفلسطينيون، وحصدوا الكثير من المآسي والإفرازات السالبة جراءها.
إن زيارة الأمين العام لجامعة الدول العربية، تأتي في حقيقة الأمر في إطار ما سبقها من زيارات ووفود. لقد جاء الأمين العام لجامعة الدول العربية إلى غزة رفعا للعتب، وامتصاصا للضغوطات التي يمارسها الشارع العربي. لكنه عاد منها بحزمة وعود، يتساءل المواطن الفلسطيني فيما إذا كان لها أرصدة على أرض الواقع. وهو هنا يردد قول الشاعر العربي: وإن غدا لناظره قريب.
وسلام الله عليك يا غزة هاشم ببلداتك بمخيماتك، يا عروس الجنوب الفلسطيني، وأنت تتحدين وتتصدين، وتقفين لا تركعين في وجه الإعصار، تنافحين عن الشرف الفلسطيني، وتسطرين صفحات من المجد والتضحية والفداء. سلام الله عليك وألف رحمة على شهدائك الأبرار وجرحاك وأسراك، أيتها الإضاءة المشرقة سنا في ذاكرة التاريخ الفلسطيني.
سلام الله عليك أيها الجرح الفلسطيني المكابر في ركب التحرير والحرية، إنتظارا لفجر الخلاص. سلام الله عليك من كل مدينة وقرية ومخيم في فلسطين جنوبا ووسطا وشمالا وفي الشتات. وألف قبلة على جبينك المكلل بالغار من نابلس جبل النار.