ورغم أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر وما تبعها من تداعيات يراد لها أن تكون وقودا لآلة الكراهية والصراع فإن التطور الذي شهدته العلاقات لم يأخذ مسارا واحدا ، ورغم أن اقتصار اهتمامنا على الدوائر التي تصنع صورة " العدو " في الغرب له ما يبرره بسبب التاريخ الطويل من الصراع بين الجانبين منذ الحروب الصليبية فإن ثمة محاولات لإعادة صياغة هذه العلاقة الشائكة على نحو مختلف ينبغي ألا تهمل وسط صخب الخطاب التحريضي ، فمثلا الكاتب الأمريكي المعروف جون أسبوزيتو أصدر عقب أحداث سبتمبر ( مارس 2002 ) كتابا عنوانه : " الحرب غير المقدسة ، الإرهاب باسم الإسلام " طرح فيه تصوره للسياق الصحيح الذي ينبغي أن توضع فيه أحداث الحادي عشر من سبتمبر ، محذرا من أن صدى مضاعفات الماضي ما زال يتفاعل في النفس المسلمة . إذ أحدثت تركة الاستعمار الأوروبي – حسب رأي أسبوزيتو - جرحاً غائراً في المسلمين في كل مكان . وكان الإسلام ، بالنسبة للغربيين ، ديانة السيف والجهاد أو الحرب المقدسة ، بينما كانت المسيحية ، بالنسبة للمسلمين دين ، الحروب الصليبية وطموحات الهيمنة .
والدراسات التي تحاول إعادة بناء صورة الإسلام والعرب والمسلمين في الذهنية الغربية لا تكاد تنقطع ، وإن كانت لا تلقى الاهتمام الكافي ، وإحدى أهم هذه الدراسات ، صدرت بالألمانية قبل عشرة أعوام " الإسلام العدو : بين الحقيقة والوهم " ، وفيه تحذر محررته أندريا لويج من ظاهرة من تطلق عليهم " الخبراء الوهميين " أمثال جيرهارد كونستلمان وبيتر شول لاتور الذين سيطرا على أجهزة الإعلام لسنوات دون منازع بوصفهما خبيرين في شؤون الشرق الأوسط . ولا تقتصر الظاهرة على ألمانيا ففي فرنسا هناك مثلا ألكسندر دل فاله الذي يعد جزءاً ممن تسميهم صحيفة " لوفيغارو " الفرنسية " حلقة الخبراء السحرية " المدعوين في شكل دوري إلى شاشات التلفزة ، وبخاصة منذ الحادي عشر من سبتمبر . فهو كنموذج لهؤلاء الخبراء ، لا يحب التعقيد ويرى أن العالم يمكن تحليله بسهولة ، وبطبيعة الحال تحدث مثل هذه التفسيرات أثرا خطيرا في الغرب . ولا شك في أن سيطرة ما يسمى " ثقافة الصورة " ، والغياب شبه التام لقوى عربية تقوم بجهد إعلامي مقابل ، يمنح هذه لبضاعة المسمومة فرصة ذهبية لأن تروج على أوسع نطاق .
ورغم الانتشار الكاسح لهذه المقولات لم يعدم العالم الغربي أن يجد أصواتا تزعجها ظاهرة " الخبراء الوهميين " فخاضت ضدها حروبا ، لكن ذلك – للأسف – لم يغير ذلك من الأمر شيئا حتى الآن . وبدلا من التحليل العلمي الجاد رسمت للعالم الإسلامي صورة وهمية من خلال تضخيم المخاوف النفسية والعنصرية . ومن هنا ، وجه المستشرقون في جامعة هامبورج الاتهام لبعض خبراء الإعلام بأنهم يعملون بأساليب غير شريفة على توسيع الفجوة بين الثقافتين الشرقية والغربية وتعميقها ، بالإشارة دائما استحالة الحوار بينهما . وتكشف أندريا لويج عن جهل فاضح بالإسلام والثقافة الإسلامية بين المتخصصين وتنقل عن اثنين من المتخصصين الألمان هما أرمجارد بين وماليز فيبر قولهما : " إنه لمن التناقض الغريب والمدهش حقا بين عدم معرفتنا بالإسلام والثقافة الإسلامية وبين ثقتنا الشديدة في إطلاق الأحكام عليهما ، ولم يحدث مرة أن استنكر هذا الجهل ولو مرة واحدة ، بل إن النقد والاتهام يوجه باستمرار إلى تلك الثقافة دون أدنى حرج " . وفي معظم الحوارات التي تدور عن الإسلام تتكرر دوما عبارة " إنني لا أعرف شيئا عن الإسلام ، ولكن . . . " ، وتعلق لويج قائلة : " إننا لا نفيق عند ( لا أعرف ) هذه لأنها ببساطة تسمح لنا ببناء عالم آخر ، عالم إسلامي حتى لو لم يتسق هذا البناء مع الواقع ، وهو فعلا كذلك . فهو مطلوب لفصل ( نحن ) عن ( الآخر ) والداخل عن الخارج فصلا لا ينمحي لكي يؤمن حدود الهوية الغربية وحصنها ، وهنا تظهر الكلمة السحرية ذات الحروف الخمسة ( إسلام ) فتنشر الفزع " .
ولا تعني مثل هذه الحقائق أن ميراث العداء فقد أثره أو أن مساعي تصحيح الأوضاع المقلوبة قد حققت أهدافها ، ولا تعني كذلك أن العلاقات القائمة تخلو من عوامل التوتر ، فما زال العلاقات بين الشمال والجنوب عموما تفتقر إلى التوازن والعدالة وتغلب عليها إرادة الهيمنة الغربية ، وما تعانيه ثقافات الجنوب من هذا الواقع تعاني الثقافة الإسلامية منه النصيب الأكبر ، ويشكل الموقف الغربي المنحاز للكيان الصهيوني العقبة الأكبر في طريق قيام علاقات إيجابية بين الطرفين . كما أن تغير صورة العرب والمسلمين في الغرب على نحو إيجابي مرهون بعوامل عديدة أولها ضرورة تحديد منابع السيل الهادر من الصور السلبية وبذل جهد لتصحيحها بالوسائل التي تناسب المجتمعات الغربية وباللغة التي يفهمها المواطن الغربي .
في الوقت نفسه يوجد خيط دقيق ينبغي إدراكه يفصل بين مفهومين ملتبسين هما : الخطاب الإعلامي والرأي العام ، فالأول يعكس قناعات النخبة والقوى المتنفذة ومجموعات الضغط ، أما الرأي العام فهو انعكاس قريب من الدقة لتصورات المجتمع بمختلف فئاته . ولنأخذ مثالا حديثا ومهما هو الحرب على العراق ، فرغم الإصرار الإنجلو أمريكي على شنها ورغم مسايرة الإعلام الأمريكي والبريطاني لهذا الاتجاه إلى حد بعيد كان هناك رأي عام قوي معاد للحرب في هذه الدول نفسها وصل إلى حد تسيير مظاهرات مليونية . وعليه فإن القرار السياسي الغربي والخطاب الإعلامي الغربي يعكسان موقف النخب أكثر مما يعبران عن مواقف الشعوب . وقبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر كان هناك شواهد تعكسها استطلاعات الرأي يشير بوضوح لتحولات إيجابية في الموقف من قضايانا الرئيسة .
ومن الشواهد المهمة الجديرة بالتوقف عندها نتيجة استطلاع لحساب تلفزيون أبو ظبي والمعهد العربي الاميركي في واشنطن أجرته مؤسسة " زغبي انترناشونال " في نيويورك ونشرت نتائجه نهاية العام 2000 . الاستطلاع شمل 1012 شخصا تم اختيارهم بطريقة عشوائية من الناخبين الأميركيين . والنتائج الأساسية للاستطلاع هي أن أغلبية الأميركيين :
• يؤيدون دولة فلسطينية بنسبة 63.5 إلى 15%.
• يوافقون على عدم نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس بنسبة 57 ضد 23.5%.
• يريدون من الرئيس المنتخب جورج بوش السير في طريق معتدل للسعي من أجل السلام في الشرق الأوسط ، بنسبة 71.5 ضد 17% يريدون من بوش مفاضلة أحد أطراف النزاع.
• يريدون من الرئيس المنتخب بوش الضغط على إسرائيل والفلسطينيين بنفس الدرجة في محاولة للتوصل لاتفاقية سلام .
ويوضح الاستطلاع الحجم الحقيقي للتعاطف مع الكيان الصهيوني ، فعندما طرح سؤال " مع من يتعاطفون " ، أكد 30 % تعاطفهم مع الكيان الصهيوني ، بينما تعاطف 11 % مع الفلسطينيين . وقال 22 % انهم يتعاطفون مع الطرفين ، و 29 % لا يتعاطفون مع أي من الطرفين . وفي استطلاع آخر للرأي أجرته مؤسسة غالوب الأميركية في وسط أحداث أزمتين فلسطينية ـ إسرائيلية ( خلال الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982 ، وفي عام 1988 في بداية الانتفاضة الفلسطينية ) جاء أن أكثر من 40% من الأميركيين يبدون تعاطفا أكبر تجاه الكيان الصهيوني ، وهو ما يعني انخفاضا في الدعم لإسرائيل منذ التسينات والسبعينات عندما أبدى أكثر من 60% من الأميركيين تعاطفهم مع إسرائيل واليوم انخفض الرقم إلى 30 % .
أما الاستطلاع الأخير ، فقد كشف عن أن تلك الاتجاهات مستمرة في الاحتفاظ بوضعها ففي سؤال للعينة التي اجري عليها الاستطلاع عما إذا كانوا يتفقون مع تعهد الرئيس المنتخب بوش بـ " بدء عملية نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس ، أو مع موقف الرئيس الأميركي بيل كلينتون إذ يقول " لا يجب اتخاذ أي موقف أميركي في ما يتعلق بالسفارة إلى أن يتفق الفلسطينيون والإسرائيليون على الوضع النهائي للمدينة " ، أجاب 57 % بأنهم يتفقون مع رأي الرئيس كلينتون ، بينما اتفق 23.5% مع موقف بوش .
ويمكن ملاحظة تطور مماثل في دعم الرأي العام الأميركي للدولة الفلسطينية. فعندما تم سؤال العينة عما إذا كان يجب وجود دولة فلسطينية أجاب 63.5 % بالإيجاب . بينما رفض 15 % فقط هذا الاقتراح وعندما سؤال العينة نفسها عن الطريقة التي يجب على الرئيس المنتخب جورج بوش الابن اتباعها ، أجاب 15.5 % فقط بأن عليه تأييد الكيان الصهيوني . وذكر 1.5 % أن عليه تفضيل الفلسطينيين ، إلا أن 71.5 % قالوا إن عليه اتباع سياسة لا تؤيد طرفا على حساب الآخر . وتكشف مراجعة الاستطلاعات أن تأييد الطريق المعتدل ارتفع من 56 % في عام 1997 إلى 71.5 % حاليا .
ولا يقتصر التحول الإيجابي على الولايات المتحدة كما أن مساره لم يتغير عقب أحداث سبتمبر ، ففي استطلاع للرأي العام نشر في باريس في مايو 2002 جاء أن 9 % فقط من الفرنسيين لا يزالون يتعاطفون مع المواقف الإسرائيلية ( مقابل 14 % منذ عام مضى ) ، في حين أعلن 19 % تعاطفهم مع المواقف الفلسطينية ( بزيادة 1 % مقارنة بالعام الذي سبقه ) ، وتشير الأرقام بوضوح إلى أن التغير لا يستغرق زمنا طويلا بل تتغير الصورة من عام إلى عام . ووفقا لاستطلاع آخر أجرته مؤسسة ( بي. في. أي ) عام 2002 ونشرته ليبراسيون الفرنسية فإن أكثر من ثلث عينة الاستطلاع أعربوا عن عدم تعاطفهم لا مع الإسرائيليين ولا مع الفلسطينيين ( مقابل 38 % العام الذي سبقه ) . وفي حال اندلاع نزاع عسكري واسع في الشرق الأوسط فإن 21 % قالوا إنهم سيحملون الكيان الصهيوني مسئولية الحرب مقابل 11 % سيلقون المسئولية على الفلسطينيين . ويظهر الاستطلاع الذي شمل عينة من 965 شخصا أن 42 % من الفرنسيين يعتبرون أن تغطية النزاع من قبل وسائل الإعلام تتم بشكل موضوعي ( مقابل 56 % قبل عام ) ، واعتبر 18 % إنها منحازة لصالح الإسرائيليين ( مقابل 9 % العام الذي سبقه ) ، و 7 % يرون أنها منحازة للفلسطينيين مقابل ( 9 % العام الذي سبقه ) .
وما تؤكده الشواهد - وهي كثيرة - أن الغرب ليس كيانا مصمتا كله موبوء بمعاداتنا والانحياز لأعدائنا وأن الرهان عليه ومحاولة التأثير فيه يمكن أن تؤتي ثمارا إيجابية فعدالة القضايا تظل أقدر على التأثير في الناس من الإلحاح الإعلامي حتى لو تسلح بأحدث التقنيات ، لكن النجاح مرهون أيضا بالطريقة التي نصوغ بها خطابنا ودرجة وضوح الرسالة الإعلامية ، أما إطلاق الأحكام القاطعة التي تؤكد أنهم يعادوننا لأنهم " إمبرياليون أشرار " فإنها الوجه الآخر للخطاب الإعلامي الذي يؤكد أننا نكرههم لأننا " إرهابيون أشرار " !