مرات قليلة في التاريخ تلك التي عاش فيها جيل من الأجيال، اِنهيار "أمة"، ودمار منجزات حضارتها، مرات قليلة، لأن تدمير المنجزات الحضارية، وانهيار الأمم لايحدث بين عشية وضحاها، وإنما يستغرق عقودا، وربما قروناً  من الإهمال والوهن والعجز، حتى يصل الحال بالأمة إلى الانتحار،الانتحار صمتا أو الانتحار تفجيرا وتكفيرا، أو الانتحار انفصالا وتشظيا وتفتيتا .
المرة الأولى التي سمعت بها اسم "دارفور" وقبل ثلاثين عاما،  لم يكن في إذاعة لندن، ولا في أية وسيلة إعلامية ناطقة بالعربية، ولكنها كانت من جارة لي في مدريد، طالبة في الدراسات العليا في فرع العلوم السياسية، جاءت تطلب المساعدة  في بحث عن السودان!  وعندما  كانت معظم جماهير المنطقة العربية وخاصة الشرقية منها، تغط في سباتها العنصري ورفضها للآخر، والأسود على وجه التخصيص، معبرة عن ركوع وخضوع أمام الأبيض الاوربي، كانت جامعات الغرب بدفع ودعم من القوى الصهيونية العالمية، تدق أسافينها لرسم الخريطة الإسرائيلية التاريخية عبر حدائقنا الخلفية، بعد أن أعجزها رباط الفلسطينيين وصمودهم - ومعهم شرفاء هذه الأمة حكاما ومحكومين – إقامتها على أرض الحدث، لم تستطع إسرائيل السيطرة على كل التراب الفلسطيني، فراحت ومعها القوى الاستعمارية العالمية مجتمعة، تلعب على خارطة جديدة سرية علنية، تجعل حدود مصالح إسرائيل اليوم ممتدة بالفعل من دجلة إلى منابع النيل !، ماعجز الاستعمار عن فرضه بقوة السلاح، كان قد أعد العدة الكاملة له من خلال خططه البديلة مستعينا بسطوة الإعلام والبحوث العلمية الأكاديمية والبعثات التبشيرية الإنسانية والمصالح الاقتصادية !.

في مقاله المعنون " جنوب السودان ..الكويت الإفريقية الجديدة"، كتب "بيدرو فيرنانديث" يقول : (إن الجمهورية الجديدة التي ستكون خامس قوة اقتصادية في إفريقية، كانت تنتمي إلى أكبر بلد إفريقي يعتبر مع الكونغو ثقب إفريقيا الأسود، لأنه يمثل خط المواجهة بين العالم العربي والإسلام من جهة، وبين العالم الإفريقي التقليدي الأسود والمسيحية والوثنية في إفريقية من جهة ثانية)، وأضاف : (إن الشيء الوحيد المهم اليوم في هذه الجمهورية الوليدة، هو البترول، وليس إلا أن نرى خارطة التواجد الغربي والعالمي في المنطقة، حيث افتَتَحت قنصليات لها في الجنوب كل من السويد وبريطانيا وفرنسة والبرازيل وجنوب إفريقية والنرويج وهولندا وروسيا وايطاليا واليابان والصين والهند)!، وينبغي لنا أن "نبتهج" لأننا وجدنا دولا عربية أو إسلامية كمصر وإيران وماليزيا، بين هذه الجموع المتداعية إلى قصعة السودان المشرعة .
أما الولايات المتحدة فقد رمت بكل ثقلها السياسي والإعلامي في هذه المعركة التي قادتها بنجاح كبيرفاق كل توقعاتها وجهودها العسكرية والاستخباراتية  في العراق!!، إلى درجة تورط  فنان عالمي مثل "جورج كلوني" في هذه الحملة الهائلة، عن طريق الخديعة، وباسم الدفاع عن حقوق الإنسان، تماما كما حدث مع نقابة الفنانين الإسبان في مدريد خلال أحداث الصحراء الغربية المغربية الأخيرة، والتي وصل فيها حجم الخديعة، أن قدم الإعلام مَشاهد عن انتهاك حقوق الإنسان في الصحراء، ثبت لاحقا أنها وثائق وصور معاناة الفلسطينيين أيام الهجوم الإسرائيلي الأخير على غزة ! ومادام هذا الهجوم الإسرائيلي على غزة وبجميع الأسلحة المحرمة دوليا لم يصب في خانة حرص ممثلِ ٍ في قامة "جورج كلوني" على نيل الفلسطينيين حقوقهم الإنسانية المشروعة، فليصب في مشروع انفصال الصحراء عن المغرب، وتفتيت غرب المنطقة، في تواقت مذهل مع مايحدث في سودانها !، لقد وصل الأمر درجة إنشاء "كلوني" بمساعدة الأمم المتحدة وموقع غوغل وجامعة هارفارد،  منظمة غير حكومية، أقامت (مشروعا  ل" مراقبة" السودان من الفضاء !! للتأكد من عدم ارتكاب جرائم ضد الإنسانية قبل وخلال عملية الاستفتاء على الانفصال) – صحيفة الباييس الاسبانية 29/12/2010- !

جمهورية السودان الجنوبية هذه، والتي تساوي مساحتها مساحة إسباينا والبرتغال معا، ولايتجاوز تعداد سكانها عدد سكان مقاطعة مدريد الثمانية ملايين، والتي انفصلت فعليا من خلال بناء كوادرها الحكومية وهيآتها الدينية وجيشها الذي يصفونه بشكل مضحك ب"القوي" !، تفتقر إلى مقومات الدولة، لأنها تعاني إضافة إلى مسألة التعدد العرقي والعنصري واللغوي والثقافي، من حالة استحالة القيام والنشوء دون مساعدة الغرب ووقوفه معها بكل إمكانياته ودعمه، الشيء الذي يُخطَط لتطبيقه وبحذافيره  في منطقة دارفور، و منطقة إيبي السودانيتين، ثم في الصحراء الغربية المغربية، إنه جرح أكبر بكثير من المجروح –عبارة استعرتها من مقال "فهمي هويدي" أسئلة الفاجعة -، ورقعة اتسعت على الراقع، ومخططات استعمارية ماكانت لتدخل حيز التطبيق قط لولا نومنا وشخيرنا وهواننا.


هذه الدولة الجديدة القائمة على اعتباري البترول والدين، والتي يعاني 90% من سكانها الفقر المدقع والأمية الموجعة والجهل المريع، تحتاج إلى بناء كل شيء، بدءا بالشوارع والمدارس والمستشفيات، وانتهاءا بمؤسسات الحكم والدولة والدين، والتي لاأشك لحظة في انها ستبدأ من بناء "وزارة للبترول"، وهو المبنى الوحيد الذي لم يتم تدميره في بغداد لدى اجتياحها على يد مغول الغرب الجدد!، والسؤال الذي يطرح نفسه الآن، السؤال الذكي الغبي، من سيبني لجمهورية الجنوب هذه مرافقها ومستقبلها ووجودها؟؟، هل هو الغرب ؟! الذي كان قد فرغ لتوه من تدمير القارة الإفريقية، بعد أن نهب ثرواتها، واستعبد رجالها ونسائها، وسرق حتى حيواناتها ليزين بها حدائق علومه الطبيعية، وجعل تربتها مدافن لقاذوراته النووية، وبيئتها محضنا لتجاربه الحيوية والذرية ؟!، هل هو هذا الاستعمار نفسه ..هو الذي سيبني للسودانيين الجنوبيين مجدهم ويمنحهم حريتهم وإنسانيتهم واستقرارهم وأمنهم؟!، هل هو هذا الاستعمار نفسه الذي تداعى إلى المنطقة العربية بكل مايملك ليمتص الحياة من عروقها، ويفرغ آبارها من ذهبها الأسود، ويحدث فيها من الدمار بعيد المدى، والتشظي الذي بدأنا نعيشه في بث حي ومبشر، ما تعجز عنه شياطين سليمان وسحر داوود ؟ أم هو حادث وبالضبط بفعل شياطين وجند أحفاد سليمان وداوود؟

لقد خذل العرب والمسلمون شعوب جنوب السودان، وكثير من الشعوب الإفريقية، بالإهمال، وبالعنصرية المقيتة غير الإنسانية التي يحلو لنا أن ننفيها عن أنفسنا ونحن متلبسون بها، كما خذلوهم بمحاولات فرض الشريعة الإسلامية واللغة العربية على أقوام لاتدين بالإسلام ولاتنتمي إلى العروبة، لقد خذلناهم لأننا لم نحسن قراءة التاريخ ولا التعامل مع الإنسان بالحسنى، ولاننا نفتقر في سقوطنا الحضاري المدوي اليوم إلى آليات التعامل مع الآخر، الداخلي والخارجي، ولأن عصر الانحطاط الذي نعيشه يتجلى بأفظع تشويه للإسلام، إذ لانفهم عنه إلا ظاهر العمل وزخرف القول، لاروح ولاأخلاق ولاإنسانية! والآن جاء دور الغرب، الذي كان قد ورث عن إمبراطوريتنا الأخيرة كل شيء، السيادة والريادة والتوحش في معاملة الآخر - ولولا هذه السمة الأخيرة لدينا لما انهارت تلك "الدولة – الأمة"-، جاء دور الغرب ليرث عنا آخر الجيوب والثغور والشعوب، التي فرطنا فيها، ولن يخرج الغرب عن استحقاقاته التاريخية الأخلاقية في النهب المُركز والقتل والإبادة بعيداً عن أعين الكاميرات والأقمار الصناعية التي زرعها لمراقبة تطبيق حقوق الإنسان هنا وهناك.

سيمتص الغرب كل مافي عروق الجمهورية الجديدة هذه من ذهب أسود وأبيض، ويترك شعبها في حالة من الصراعات الانشطارية الدائبة، ويكسر ركب قيادييها ومؤسسيها كيلا لايستطيعوا النهوض أبدا، لينشغلوا بحل معضلاتهم ريثما يتم سحب كل ثروتهم البترولية، ونقلها كاملة غير منقوصة إلى أرضه، ورمي الفتات لأهلها، بعض الملايين يتلهون بها ببناء أبراج، ومراكز تجارية هائلة للتسوق من منتجات مزارع ومراعي الغرب،وصناعاته الاستهلاكية، التيىيصدرها لأمم لاتزرع ولاتحصد ولاترعى الأغناموالدواجن!  وربما بنيت في الجمهورية الجديدة بعض المطارات، وطريق سريعة للسفر تمرّ من أمام قصر الرئاسة، ومشفى ألماني ..وآخر هندي لمعالجة بعض متوسطي الثراء من أبنائها ممن يعدون بالعشرات وحسب، أما أثرياؤها الحقيقيون فهم لايسلمون أنفسهم  إلا للأطباء الأوربيين المختصين في علاج "أبناء سلاسلات الآلهة"!  بينما سيستمر السود الأفارقة في جنوب السودان، كما في كل مكان من إفريقية بالموت جوعا وتضييعا ونسيانا، حتى  تنضب ثرواتهم وتجف آبار نفطهم، عندئذ سيعود اللصوص إلى بلادهم الاستعمارية ثملين بما ارتووا، تاركين تلك الأرض قاعا صفصفا!

ماكان ينبغي أن ينتحر شهيد الثورة والرفض والاعتراض في سيدي بوزيد التونسية الأبية، إنما وجب على قياداتنا وحكوماتنا أن تنتحر، وقد وصلت البلاد والعباد تحت مسؤوليتها المباشرة إلى هذا المشهد المأسوي!!، أم أنه انتحار فعلي حقيقي هذا الذي نراه من ابتهاج هذه القيادات بما حققته من منجزات تاريخية، تتلخص في حفاظها على كراسيها، والقضاء على المعارضات قضاء مبرما، بحيث لاتترك لشعوب المنطقة أي أمل بالتغيير إلا عن طريق الانتحار والتفجير والفوضى المدمرة .

لقد انتصر النظام في السودان،لأنه وكما يبدو– بعد الانفصال القادم لكل من دارفور وإيبيي-   سيستمر في حكم ربع السودان المتبقي، وإلى النهاية، نهايته أو نهايتنا .... وأؤكد يقينا أن نهايتنا نحن شعوب هذه المنطقة، غير قريبة أبدا، وفيم نرى من انتفاضات شجاعة في أرجاء المنطقة العربية اليوم، برّ أيماننا وصدق إيماننا بالمستقبل وبالإنسان.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

nashiri logo clear

دار ناشري للنشر الإلكتروني.
عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

 

اشترك في القائمة البريدية