حياكم الله أيها التوانسة الكرام، حياكم الله من شعب قوي مناضل أمين، لقد رفعتم رؤوسنا، وبيضتم وجوهنا، وملأتم قلوبنا بالأمل الذي طالما كتبنا من أجله، ورويتم أرواحنا بعبق المستقبل الجميل، مستقبل منطقة تمور بالظلم والقهر، وتتطلع اليوم إليكم من محيطها إلى خليجها لتتعلم منكم الدروس العظيمة، كيف تكون الثورات، وكيف تكون الحياة، وكيف يستطيع شعب أن يصنع التغيير دون سفك دماء، ولو كان الطغيان مستعدا لسفك دماء كل أبناء هذا الشعب ليبقى ملتصقا بكرسيه.أخطأ كل الخطأ من قارن هذه الثورة بثورة الضباط الأحرار في مصر، لأنها لاتشبهها في شيء، إنها ثورة شعب لحقت به قياداته، وليست ثورة أفراد يتسلطون على رقاب العباد ليسوقونها باسم الشعب إلى حين وحيث تنتفخ جيوبهم وأوداجهم، إنها ثورة فريدة غير مسبوقة في أمتنا ومنطقتنا هذه الثورة التونسية الشعبية.لانتوقع ..ولايمكن لعاقل أن يتوقع أن يكون نقل السلطة في تونس سهلا ليناً، وأن لاتكون هناك تحديات خطيرة وكبيرة ومكلفة أمام الشعب التونسي في ثورته النظيفة الرائعة المبهرة هذه، ولكننا على يقين بإذن الله من قدرة كل الأطراف في تونس على الوقوف في وجه كل من يحاول إجهاض ثورتهم، وهم كثر كثيرون،وقطعا ليس "القذافي" من أولهم وإن كان من أشجعهم وأصدقهم !، كما أننا على يقين من أن الشعب التونسي العظيم سوف يوفق لتكليف من يرى فيهم القوة والأمانة للنيابة عنه في تسيير شؤون البلاد.

أما عن حكامنا –وماخلا حكومة قطر – فحدث ولاحرج، فلم ينطق منهم إلا العقيد، وياليته بقي صامتا كإخوانه في الظلم والقهر والسحل والتعذيب والتغييب والنهب وتوريث الحكم، ليته سكت وترك الأمة تخمن وتظن، نطق.. ليجهض ثورة التوانسة الأحرار، نطق ليشيع بين الناس الخيبة واليأس، نطق ليشوه الفعل العظيم في هذا اليوم العظيم، نطق ليدعو الشعب التونسي الأبي الحر إلى أشنع وأقبح وأفظع مايمكن أن يدعوهم إليه أحد، وهو التأسي بثورته الجماهيرية الديمقراطية العظمى !!! .صمتت أوربة لأن المفاجأة عقدت ألسنتها الطويلة، ولأن أجهزة استخباراتها لم تكن في سرعة الفعل الشعبي التونسي، ولأن أجهزة مخابراتها الذكية لم تكن على مستوى الحدث، حتى تطوقه وتركبه وتلتهم ثورة المقهورين.لكن دور الجزيرة لم يقتصر على ذلك، فلقد أوصلت صوت الشعب التونسي إلى المحافل العالمية التي أصيبت بالخرس، كما أصيبت ادعاآتها العريضة بالحرية والديمقراطية  وحقوق الإنسان بمقتل، لقد صمتت أوربة التي اعتادت نشرات أخبارها إيراد خبر كل "ذبابة مضطهدة" في أرجاء العالم، صمتت صمت القبور عما يحصل في الضفة المقابلة لضفافها التي يموت شبابنا وهم يحاولون الوصول إليها بحثا عن شيء من كرامة!!، صمتت، وفي أرضها ملايين المغاربة والتوانسة والليبيين والجزائريين ممن يتميزون غيظا  وقهرا، فلم تراع مشاعرهم ولاحتى بخبر يُطيب خواطرهم عن ثورة حقيقية تدور في أرضهم الكريمة !، صمتت أوربة لأنها لم تملك أبدا إلا الصمت والجحود ومساعدة الطغاة على شعوبهم، ودعمهم للاستمرار في قهرها وتركيعها، الصمت والتشويه والتمويه كان سلاح أوربة الدائم المشهور في وجه كل خبر أو حركة أو إنجاز إيجابية في منطقتنا!
ويأتي مع هذه الأسباب مجتمعة، الدور الكبير جدا للإعلام، الذي بدأ من كاميرات الهواتف المحمولة لشجعان تونس الذين لم يأبهوا بالظالم، ولم يلتفتوا إلى تهديده، فراحوا يصرون على أن يطلع العالم على ثورتهم الشعبية بصورة حية ومباشرة ، ثورتهم الشعبية التي أصبحت وستبقى علامة فارقة في واقع ومستقبل المنطقة من أقصاها إلى أقصاها، ولايمكن لأحد أن ينكر الدور الرائد والكبير والرئيسي والشجاع جدا للقنوات الفضائية المستقلة وبالاسم قناة الجزيرة الإخبارية في قطر، ثم قناة الحوار وال بي بي سي في لندن، دور لابد من الوقوف كثيرا عنده، ودراسته بالتفصيل البحثي التوثيقي، حيث أوصلت صوت الشعب المقهور المجروح الذي لم يستطع احتمال أن يحترق أحد أبنائه قهرا، لم تشعل الجزيرة فتيل الثورة كما ادعى الطاغية في اول خطاب له، كل ماقام به شرفاء الجزيرة كان أن وقفوا مع الحق، فأوصلوا الصورة والكلمة إلى جماهير هذه الأمة، التي وقفت بقلوبها ومشاعرها مع شعب تونس، بل وخرج كثير من شرفائها – الذين يستطيعون الخروج- للتعبير عن دعمهم ووقوفهم مع الشعب التونسي الذي أعاد للأمة وجهها المشرق، وللإنسان ثقته بنفسه، وللمنطقة الأمل الواسع بقدوم التغيير لامحالة.

انتشار العلم، وتنظيم المجتمع وإعادة تربيته، وموقع الجيش في خدمة المجتمع، ثلاثة دعائم رئيسية لثورة بيضاء نظيفة، لم ترتكب فيها الجماهير أعمالا شائنة ولم تسفك فيها دماء بريئة أو مذنبة، وإنما قامت بهذه المهمة فلول السلطة البائدة، في محاولات مستميتة لإحلال الفوضى، وتدمير منجزات الشعب، لعله يستجير بالظالم فيعيده مُكَرما، من حيث خرج فارّاً، أضف إلى ذلك مجتمع ذو بنية تحتية في غاية التماسك، ومنظمات مدنية منضبطة فعالة، وأحزاب في المعارضة أجادت التواصل مع الشعب، ومعارضة في المنفى كانت قادرة دائما على إحداث حركات تصحيح متواصلة، الإسلامية منها والغير إسلامية .أولا: التركيز على محو الأمية والعناية بالجامعات والعلم بين الشباب، تقليدا للنموذج الغربي الذي كان النظام مهووساً في مقاربته والتباهي به أمام مرجعياته، ناسيا  أن هذا النموذج له استحقاقاته الإنسانية والاجتماعية والسياسية باهظة الثمن  !، ثانيا : لقد شهد المجتمع التونسي عملية تغيير قيَمي كبيرة جدا، كان لها أثراً في تغيير كثير من القيم السلبية في الثقافة السائدة في المنطقة العربية،  ثقافة مهترئة لاتخطئها القلوب ولا الأبصار، ساهم النظام التونسي البائد من حيث يدري أو لايدري وأثناء  حربه الضروس على الإسلاميين، في تخليص المجتمع من آثارها الضارة دون أن يتغير شيء من أسس الثقافة الايجابية السليمة المترسخة في قلوب الجماهير الشابة، وقد أسهم هذا في بناء مجتمع جديد بثقافة جديدة، لايستمد فيها الإنسان العون من عالم الغيب فحسب بقدر ماينصبّ جهده في الفعل على عالم الشهادة، وهذه معادلة شبه غائبة أو مغيبة عن معظم المجتمعات العربية، التي ركنت للظالم ومارست واستمرأت الظلم، وأصابها الوهن فظنت أن السماء تمطر ذهبا وفضة وحرية وكرامة بشكل مجاني أو.. دموي!، وثالثا : موضوع الجيش، لقد أسدى النظام التونسي البائد إلى شعبه واحدة من أعظم الخدمات والمآثر التي سيذكرها له التاريخ عاجلا أو آجلا، وذلك من خلال تأسيسه جيشا قويا سليما، لم يكن عقائديا، ولم يكن متشكلا من مجموعة من المرتزقة هدفهم حماية النظام، ولم تجرثمه التشكيلات الطائفية أو الحزبية، وضعته الدولة في خدمة الشعب، فكان مع الشعب في تشجير الصحراء، وفي معركة النظام والنظافة والبناء، كما كان معه في تلك الساعة العصيبة التي قرر فيها هذا الشعب أن ينهي ذلك الحكم الذي لم يعرف كيف يكرم نفسه وشعبه، فخنق نفسه بنفسه في مستنقعات الفساد على يد عصابة السراق – على حدّ تعبير الشارع التونسي- وأضاع فرصته في دخول التاريخ من أوسع أبوابه .هكذا جاءت ثورة شباب تونس، ثورة متفردة في المنطقة العربية، لاأظن أن مجتمعا آخر في المنطقة يمكنه أن يفرز مثلها في القريب العاجل -على الأقل-، لعدة أسباب، تتعلق بطبيعة البناء الداخلي للمجتمع التونسي، والدولة التونسية، والجيش التونسي، ويكاد يكون للنظام  المخلوع شطر الفضل في هذا، ولايجب أن تعمينا فورة المشاعر عن الاعتراف بذلك، على الرغم من كل مايمكننا أن نصف به نظاما مستبدا مجرماً أخطبوطياً والغاً في دماء الناس وكرامتهم، مثل نظام بن علي !!
لقد جاءت هذه الثورة الشعبية التونسية على إثر قيام ذلك الشاب البوعزيزي بإحراق نفسه، انتصارا لكرامته، ومطالبة بحقه في الحياة، لقد أشعل النار في نفسه أحد أبنائنا يأسا وقهرا، فأشعل في نفوسنا جميعا نار الثورة، لأن نيران الثروات تشبه نيران القهر مع فارق صارخ، وهو أن القهر قد ينتحر أما الثورة فإنها تنفجر، لاأتحدث عن تلك الانفجارات الخطأ في الأزمنة الخطأ والأمكنة الخطأ، ولكن عن ذلك الغليان الشعبي الذي يتدفق من فوهة البركان عظمة وعنفوانا، ترغم الطبيعة ان تشق له الطريق ليمضي نحو هدفه، دون أن يتجرأ شيء على الوقوف في وجهه. لقد كان حدث محاولة الانتحار حرقا، اعتراضاّ وإنكاراّ وإعلاء لصوتٍ يريد الجميع خنقه، كان حدثا استثنائيا فريدا، وغير قابل للتكرار من حيث عنصر المفاجأة والانقضاض على الضمير العام، ومن حيث ملابساته الشعبية والثورية في المنطقة العربية، لقد رمى البوعزيزي في وجوهنا مسؤوليتنا عنه وعن أقرانه، مسؤوليتنا عن الشباب الذي يحترق دون انتحار، والذي يشوى على نيران القهر ببطء وصمت، ولايفهم أحد عنه مايريد، لا الحكومات المرتهنة الإرادة، ولا القيادات السياسية اللصوصية، ولا الحركات الدينية التي بقيت في الخلف، بعيدا عن فهم هموم الشباب وواقع المجتمعات التي تئن، ومتطلبات المرحلة الخطيرة في المنطقة العربية.كانت هذه هي اللعبة حتى يوم الرابع عشر من كانون الثاني، هذا اليوم الذي لايشكل علامة فارقة في تاريخ تونس وحسب، ولكن في تاريخ المنطقة، التي لم تشهد شيئا مماثلا منذ سقوط الخلافة، ودخول المستعمر الأوربي أرضها ليعمل فيها أقلامه ومقصاته كما أسلحته الذكية والغبية تركيعا وتفتيتا، وليتركها منطقة مشاعا لنظرياته، ونظرته إلى الآخر غير الأوربي، الذي يجب أن يبقى ذليلا متخلفا خانعا مخدوعا بدعاوى الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان،  بالضبط كما يخدع كبراؤه مواطنيهم أنفسهم بهذه الشعارات عينها ليموهوا بها حقيقتهم الاستعمارية الاستئصالية، وتدخلهم في حياة الآخرين، وغزوهم، واغتصاب ثرواتهم، والهيمنة عليهم .إنها أجيال جديدة ظنّ الطغاة أنهم تمكنوا منها في مسيرتهم للقضاء على الذاكرة الجماعية للشعوب، وتمويه الحقائق، وتزييف الباطل، ونسوا قضيتين حيويتين، أولهما أن الشعور بالكرامة هو فطرة لدى الإنسان، لاتتعلق بمحو ذاكرة الشعوب أو إثباتها، وأن مطلب الحرية قد يتفوق وكثيرا لدى الشعوب على مطلب الخبز والأمن، لأنهما أصلا مرتبطان به، ارتباطا وثيقا لاينفك ولو ظن الطغاة غير ذلك.تعتبر هذه الثورة التونسية المجيدة، مؤشرا بالغ الأهمية على تغيير حقيقي في الساحة الشعبية والاجتماعية والسياسية في المنطقة العربية،  ودليلا قاطعا على أن التغيير قادم لامحالة، وعلى أن الأجيال الجديدة من شعوب المنطقة، والتي ولدت في ظل أنظمتها الطغيانية القمعية، ولاتعرف غيرها، هي الأجيال التي ستحمل راية التغيير هذه، وبأساليب سلمية جديدة كل الجدة على هؤلاء الطغاة، الذين ألِفَهم الجيل القديم وألِفوه، فلايملك إلا الصمت عنهم والصبر القبيح على أفعالهم الشائنة، أوتفجيرهم وتكفيرهم، ولايملكون إلا سحله وتكميمه، أوشنقه و نفيه .

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية