إن من مفارقات التاريخ الصارخة، أنه لايعود إلى الوراء، وإن مايحصل في مصر اليوم، هو معركة لاتخص مصر قطعًا، إنها معركة الأمة كلها، بكل فئاتها القومية وانتماءاتها الدينية ومكوناتها الفكرية وحساسياتها الحزبية، إنها معركة أحرار العالم مع النظام العالمي الجاثم على صدور البشر، يقتل ويذبح ويقصف ويقمع في مكان، ويغسل العقول ويتلاعب بالرأي العام في مكان آخر.
إن مايجري في مصر في هذه الساعات الرهيبة، ليس مجرد معركة مابين شعب مغلوب على أمره ونظام عميل انكشفت للعالم كله عمالته وخيانته ونزوله عند رغبة العدو الصهيوني فحسب، ولكنها قمة الاستعلاء والنفاق والخديعة، إنها مناورات الولايات المتحدة وأتباعها في عالم الغرب الذي يظن أنه استولى على دفة إدارة الأشياء في هذا العالم، من خلال أبشع سياسات الكذب والتمويه والتشويه، والضحك على الشعوب ! لايمكننا إلا أن نكون على شبه يقين بأن الولايات المتحدة هي التي أوعزت للرئيس بأن لايترك منصبه، وأن لاينزل عند رغبة الشعب، وأن يتمسك النظام بكراسيه ومواقعه، بينما تخرج هي على الشعب بمظهر المساعد المشفق الذي يدعم مطالبه في التغيير، وبهذا تحوز على ولاء الشعب، وتنفذ سياساتها الصهيونية في مصر، وتظهر مبارك وكأنه رجل قوي يستطيع أن يقف في وجه امريكا! إن الرئيس المصري فاقد الثقة من قبل شعبه، ليس هو النظام، إنه رجل مريض بطيء الفهم والإدراك، قد تجاوز الثمانين من العمر ولايكاد يستطيع الوقوف على قدميه كما تظهره الصور، ومهما يكن الأمر، فإن مبارك ليس وحده الذي اتخذ القرارات الإجرامية، لقمع ثورة شعبه، وتمريغ أنف بلده في الوحول، إن هذه القرارات كانت قد اتُخذت في تل أبيب وبعض أروقة واشنطن، لأن هذه الجهات كما يبدو هي المتنفذة في البلد، والمستفيدة الأولى والأخيرة مما يجري، وهو يجري أمام ذهول الجميع بموقف الجيش المصري المتفرج، الجيش المصري أمريكي التمويل والتجهيز، وربما التوجيه، والذي سيكتب عنه التاريخ، وهو يؤرخ لهذه الموقعة العظمى، بأنه الجيش الذي خدع شعبه واستغل طيبته ومصداقيته، ولم يحميه في ساعة العسرة.
لايمكن الضحك على الشعوب بهذه الطريقة، ولايمكن التعامل مع الشعب وكأنه ولد قاصر لم يبلغ الرشد بعد، كما لايمكن تعامل الطغاة مع المواطنين وكأنهم أعداء في ساحات المعارك.
لقد كان خطاب الرئيس المصري عشية الثلاثاء، مهزلة بكل مقاييس المهزلة، ضرب بها عرض الحائط مصداقية شعبه وشجاعته وكرامته، أمام الملايين الذين كانوا يتابعون الحدث عبر شاشات العالم في بث حي ومباشر، لم يتنبه الرجل إلى أنها لم تكن شجاعة شعبه على المحك فحسب، بل لقد كانت مصداقية العرب والمسلمين جميعا، فلأول مرة منذ سبعين عاما يقف العالم كله وقفة احترام وتأييد لما يجري من احتجاجات سلمية حرة نظيفة نزيهة في بلاد المنطقة، لقد استرد المصريون الشرفاء ومن قبلهم التوانسة الشجعان كرامة الأمة المهدرة تحت أقدام طغاتها، لقد أعادوا لنا شعورنا بإنسانيتنا، وشعورنا بالفخر لانتمائنا إلى هذه الأمة، وجعلوا العالم كله تنبض في عروقه دماء ثورات الحق والعدل والحرية من جديد، لم ينتبه الطاغية إلى أنه اختار بين إرادة شعبه وكل شعوب المنطقة والعالم كله، من جهة، وبين إرادة نتنياهو في تل أبيب من الجهة الأخرى، وقد اختار الرجل "نتن- ياهو" على شعبه!.
لقد لجأ النظام إلى تطبيق أساليب القرون الحجرية مع شعب وقف بصدور شبابه العارية في مواجهة الموت والطغيان ليقول للعالم: إننا شعب كريم أبي لانرضى الذل والإهانة، وسنوقف طغيان الفساد والسرقة في بلادنا، وسنتوقف عن الهجرة في قوارب الموت نحو شواطيء تَعد بالحرية والكرامة، وإن كانت لاتمنحهما للغرباء. لقد رأى العالم كله كيف اقتحمت قوات قذرة ساحة ميدان التحرير بالخيول والجِمال وعربات تجرها البغال، لتخترق صفوف الشباب الأعزل المسالم، وتحدث هناك مجزرة ستكشف الساعات اللاحقة أبعادها، إنها أساليب متخلفة مغرقة في التخلف لمواجهة طليعة شعب مثقفة واعية مؤمنة بالغد وبقدرة هذه الأمة على النهوض.
إن هذه المعركة الدائرة الآن في ميدان التحرير، ليست معركة هذه النخبة المصرية مع تلك الحثالة من فلول النظام، ولكنها معركة الأحرار مع العبيد، معركة الثوار مع الخانعين، معركة الأباة مع المنشقين، معركة الإرادة مع المثبطين، الذين يتخلفون عن الأمة، طلبا لمكاسب دنيئة في ركب الطواغيت، معركة الثبات واليقين مع الإرجاف والانقلاب على الأحرار ساعة المحنة.
مايحدث الآن في ميدان التحرير لايخرج في حقيقته عن كشف المستور، تمامًا. وكما حدث مع الوثائق التي كشفتها الجزيرة عن السلطة الفلسطينية، تلك الوثائق لم تكشف شيئا لانعرفه، لقد وثّقت لماهو معروف ومتواتر تتناقله الألسنة، وهذا بالضبط مايقدمه المشهد في القاهرة والاسكندرية اليوم، إنه التوثيق الذي لايأتيه الشك من بين يديه ولامن خلفه، عن طبيعة النظام الذي حكم مصر ثلاثين عاما. لقد كنا نسمع عن فساده وظلمه، عن انهيار الدولة، وتفكك المجتمع، وتفسخ الخدمات والبنية التحتية، عن السرقة والنهب، عن التعامل الوثيق بين رجال الأعمال المصريين والإسرائيليين، ولكنننا لم نصدق حتى اليوم، ماكان الشعب المصري يحكيه ويبكيه.
مايقوم به النظام المصري الآن، دليل انفصاله عن الواقع، وطلاقه البائن مع الأمة، وسقوطه في مزابل التاريخ، ويجري ذلك للأسف أو لحسن الحظ على الهواء مباشرة في بث حي، لاتختص به قناة الجزيرة، المتهمة أبدا بالتحريش والتهويش! ولكن على كل القنوات الإخبارية العالمية، القناة الإخبارية الإسبانية "24 ساعة" لاتنقل صورها عن قناة الجزيرة، وإنما تصور مايحدث في أرض ميدان التحرير، وتنقل للشعب الإسباني ومباشرة، هذه الصورة المؤلمة الشاذة التي تنتمي إلى عهود انهيار دول الرومان والإغريق البائدتين، كما نقلت عشية الثلاثاء خطاب الرئيس، وجوابه لشعبه الذي خرج بالملايين في أبهى صورة نديّة، يقول للعالم : إننا أمة لم تمت، أخطأتم - وأخطأنا- باعتبارها أمة ميتة، لأن هذه الأمة تمتلك آليات التجديد الذاتي، والقدرة على وقف السقوط في الهاوية، وهي خاصية لم تتمتع بها كثير من الأمم في التاريخ.
إنه من المضحك المبكي أن يمُنّ الرئيس المصري – أو من كتب له تلك الكلمة الدراماتيكية- على الشعب بما كان قد قدمه له من خدمات وأيدٍ، ولاأدري عن أية خدمات كان يتحدث، فلقد أورد مصر المهالك، بدءاً بالالتزام المخلص باتفاقيات السلام مع العدو الإسرائيلي إلى درجة مساعدته في الإجهاز على الشعب الفلسطيني، وانتهاءا بانهيار البلد على رؤوس أصحابها، مرورا بتمكين رجال أعماله من نهب المليارات، وانتهاءا بهذه المؤامرة التي يستخدمها في هذه الساعات وعلى مرأى ومسمع من العالم كله، لقمع شعبه وتكميم أفواهه وكبت حريته وإرادته.
إن مايقوم به شباب مصر الشرفاء اليوم إنما هو فعل مقاومة، مقاومة لهذه الطغمة الحاكمة الساقطة، مقاومة للنظام الرسمي العربي الذي يطبق الخناق على مقاطعات المنطقة العربية، مقاومة للولايات المتحدة التي تلعب على كل الحبال، ويكاد لعبها بهذه الورقة المصرية يحرق كل أصابعها اليوم، مقاومة للنظام العالمي بكل استكباره وجبروته وتمكنه من رقاب البشر، مقاومة للظلمة والظلام والنفاق والخروج والشقاق والانفصال والتمزق والشرذمة، مقاومة للتخلف والارتكاس والعودة إلى مهاوي الاستكانة والمهانة والهوان، مقاومة لكل فعل ماض ناقص معتل، لقد دخل شباب مصر الذين شقت لهم الطريق الفلول التونسية الشجاعة، أبواب التاريخ من أوسعها وأكثرها إشراقا، ولن ينتظر التاريخ أن يحكم لمبارك كما تمنى في خطابه، لقد أطلق التاريخ حكمه على مبارك ليلة الأربعاء 2.2.2011، ليس بسبب خطابه الموبوء بالاستبداد والتناقض مع الواقع وغيبوبة الطغيان وممالأة المستعمر والمستوطن، والضرب برغبة شعبه عرض حائط الاستعلاء والظلم، ولكن بسبب هذه "الخطة القميئة"، المؤامرة البديلة، لشق الصفوف وضرب الموقف المعارض، التي أعدها هذا النظام وتنفذها كلابه الشرسة ضد الابرياء والشرفاء،المدوية أصواتهم من ميدان التحرير بكل مافي صدور هذه الأمة من غضب وقهر وثورة. إنه أعظم أنواع ودرجات الجهاد على الإطلاق، الوقوف في مثل هذا الموقف المشرف لدى هذه السلطة الغاشمة.
لقد تمت محاكمة حسني مبارك و"عصابة الزقاق" والسراق الحاكمة باسمه في مصر العزيزة الغالية، قلب العروبة والاسلام، وصدر الحكم عليه بالخيانة العظمى، إنه لايستحق أن يموت في وطنه ولا أن يُقبر فيه بعد أن منع شعبه حقه في أن يعيش على أرض هذا الوطن حرًا كريمًا.
من المهم والاستثنائي أن تعلم هذه الأمة حقيقة هذه المعركة التي تدور رحاها الآن في ميدان التحرير في قاهرة المعز لدين الله، وأن الحرب سجال وكر وفر، وأن هذه جولة ومن ورائها جولات، فلايدخلن الوهن والتخاذل والاحباط القلوب، إن ثورة طلائع الشعب المصري الأبي -ومهما كانت النتائج التي ستنكشف عنها هذه المعركة- ستدخل التاريخ، على أنها ثورة الشباب المثقف في سبيل الحرية والكرامة، ثورة طلائع كان يجب أن تاخذ بعين الاعتبار تنظيف حديقتها الخلفية قبل أن تبدأ العمل في البناء، إنها معركة الثقافة، معركة الهوية، معركة الانتماء، التي يجب أن تسير جنبا إلى جنب مع معركة الحرية والكرامة، إنها معارك أمة نامت طويلا، وهي الآن تستيقظ، لتصافح الفجر، ولتصافح الشمس، ولتتطهر من أدرانها، بالحريق الكبير، الذي بدأ بالتهام جسد البوعزيزي، والذي سينتشر مثل النار في هشيم حياتنا، ليغير فيها باذن الله كل شيء بدءا من الأنظمة المستبدة، وانتهاءا بالإنسان المتخاذل.
يجب أن تعرفوا ياشباب مصر، أنكم وحدكم، وحدكم هناك في هذه المعركة المصيرية، أمريكا ليست معكم، إنها تنافق وتكذب علينا وعليكم، الاتحاد الأوربي ليس معكم، إنه ليس إلا مع إسرائيل ومطالب إسرائيل ومصالح إسرائيل، الأنظمة العربية ليست معكم لأنها لاتريد أن تنتقل العدوى إليها وإلى شعوبها، أنتم وحدكم وقلوبنا معكم، والأمة كلها معكم من المحيط إلى الخليج، من القهر إلى القهر، بدعائها، بمشاعرها، عيوننا عليكم، وقلوبنا معكم، وإن عجزنا اليوم عن أن نقدم لكم شيئا غير الكلمات.