منذ سنوات أواسط القرن العشرين المنصرم، وهي السنوات التي بدأ العالم العربي بالإستقلال عن كل من بريطانيا وفرنسا، لم تشهد الأمة العربية تغييرا جذريا في هيكلية مؤسساتها. لقد كان التغيير شكليا، وبخاصة فيما يتعلق بالمؤسسات السياسية، وتحديدا الأنظمة السياسية.
تحت ظلال هذه الأنظمة العربية السياسية، عاش المواطن العربي زاحفا لاهثا وراء تحصيل لقمة عيشه، وحبة الدواء لمريضه، وقسط من التعليم لأبنائه الذين قدر لهم أن يتعلموا، وأما أولئك الذين لم يكتب لهم أن يتعلموا، وهم كثر، فظلوا رهينة الجهل والأمية والفقر المدقع.
إلا أن منظومة لقمة العيش، وحبة الدواء، وهذا القسط من التعليم، وارتفاع مستوى البطالة التي تنتمي إلى الوضع الإقتصادي السائد في معظم أقطار العالم العربي باستثناء القلة، ليست هي الحدود التي تنتهي عندها مشكلات العالم العربي والإنسان العربي. ثمة مشكلات سياسية خطيرة هي الأخرى، لا تقل خطورة عن المنظومة آنفة الذكر.
سياسيا، يمكننا الحديث عن الوضع السياسي من منطلقين. الأول المنطلق السياسي الداخلي. وهنا تظهر صورة انعدام الحريات السياسية العامة، وانعدام الديموقراطية، والإفتقار إلى منظومة حقوق المواطن العربي، والعدالة الإجتماعية، والتعددية السياسية وحرية تأسيس الأحزاب، او ما يحلو للبعض أن يطلق عليها التعددية السياسية.
ومن ناحية أخرى تتجلى صورة القمع والإستبداد والإضطهاد، وعلى خلفية هذا وذاك تغص السجون والمعتقلات العربية بسجناء الضمير والرأي ومعارضة السلطة.
المنطلق الثاني يتمثل في التبعية السياسية للقوى الأجنبية المتنفذة التي تهيمن على السياسات العربية، وترسم مساراتها المحلية والإقليمية والدولية وتتحكم فيها. والأنظمة العربية محكومة في الدرجة الأولى للولايات المتحدة الأميركية التي تخوض منذ أحداث الحادي عشر من إيلول/سبتمبر 2001 ما تسميه الحرب على الإرهاب، وتفرض إفرازاتها على كثير من الأنظمة السياسية العربية.
ثمة بعد ثالث للوضع السياسي العربي يتمثل في إقليمية متقوقعة داخل حدود سياسية مصطنعة مفروضة من الخارج، وعلى الأرجح أنها تتقاطع مع روح العصبية القبلية في أكثر من نقطة، فولدت مع مرور الأيام هذه الأنظمة السياسية بشكلها الحالي على خارطة العالم العربي الذي يفترض أنه يضم بين ظهرانيه أمة واحدة متجانسة تواقة إلى الوحدة في وطن عربي واحد، لا مجرد شعوب ناطقة باللغة العربية.
إن ما كان يحدث على ساحة العالم العربي شيء لا يصدق ويخالف قوانين التغير والتطور. فبدل الوحدة والتضامن هناك الفرقة والتنافر، وبدل القوة والمنعة الضعف والعجز، وبدل التحرر والحرية التبعية الطوعية، وبدل الاستثمار القومي للموارد الهيمنة الغربية عليها، وبدل التنمية الحقيقية الشاملة التنمية التظاهرية، وبدل الحمية والنخوة اللامبالاة وعدم الاكتراث، وبدل الوقوف مع الأشقاء في محنتهم ومأساتهم الصمت المريب والتحالف ضدهم مع المعتدي عليهم. وهناك الكثير الكثير.
إنها صورة العالم العربي فهو والحال هذه كان "رجل العالم المريض" الذي يعرف العلة والداء ويأبى تناول الدواء. إلا أن هذه الصورة القاتمة التي كان يظن أنها نمطية ملاصقة للوضع العربي العام، قد أخذت تتغير، وأخذ الإنسان العربي ينطلق من القمقم الذي حكم عليه أن يتقوقع داخله.
إن الإنسان العربي لا ينام على ضيم، وإن صبر طويلا على القمع والقهر والإستبداد، فإنه لا بد أن يتحرر من هذه المنظومة الشرسة التي لونت أيامه بالشقاء والعذاب والمعاناة، وقد آن أوان زوال الشدائد التي حاقت به، وآن له أن يعيش حياة كريمة لا تشوبها أية شائبة أيا كانت.
لقد آن للإنسان العربي أن يتمتع بخيرات بلاده التي نهبها تجار حروب جشعون وصوليون حرموه منها طوال عقود، واستغلوها لأطماعهم وجشعهم الذي لا يقف عند حدود. آن للإنسان العربي أن يعيش مكرما رافع الرأس تحت راية أوطانه. آن له أن يتمتع بالحرية والديموقراطية والمساواة والعدالة الإجتماعية ومنظومة حقوق الإنسان. آن له أن لا يعيش منفعلا بل فاعل، أن يرفع عن كاهله أردية التبعية للآخرين الذين تفننوا على مدار الأيام في استعباده وإذلاله.
كلمة أخيرة لا بد منها. فإزاء هذا الواقع الأليم الذي يعيشه العالم العربي فإن الإنسان العربي لم يعد يملك إلا أن يستمطر رياح التغيير التي على ما يبدو قد أخذت تهب على أقطاره الواحد تلو الآخر. إن الإنسان العربي يرفع يديه عاليا إلى السماء داعيا الله أن يلهمه طريق الصواب، وأن يعيد إليه ما فقده طوال هذه العقود الجوفاء تحت ظلال الأنظمة السياسية العربية.
إن الإنسان العربي مدعو إلى نشر ثقافة روح الألفة والتضامن، ورص صفوفه، وإحكام بنيانه، وتعزيز وقفته في وجه التحديات الراهنة والمنتظرة. إن التفاؤل المفرط وهو في أول الطريق يحمل في ثناياه مخاطر هو في غنى عنها. وليس على الله وحده جلت قدرته ببعيد أن يسدد خطاه ويرعى مسيرته ومساره.