لعلّنا الآن أحوج من أي وقت مضى لنجمع ابرع مهندسي العمارة ومديري المشاريع الإسكانية وأعظم الرسامين والبنائين وأصحاب الذوق الرفيع في البناء ولا ضير إن سرقنا بضع تصاميم من هنا وهناك وقليلاً من التقليد الأوروبي لنبني قصر ضيافة فخماً ،، ونجعل بوابته ذهبية منمّقة تسرّ الناظرين وحوله الحدائق الغنّاء ونواعير الماء وزهور من شتى الأنواع والألوان وحارساً كهلاً لا عمل ولا فعل لديه سوى فتح البوابة وإغلاقها بعد كل زائر ، ليقول مع كل قرع للجرس أو يد هاوية : من بالباب ؟ ،، ليطلّ عليه رئيس مخلوع جديد أو حاكم لم يستطع أن يخرج مخرجاً مشرّفاً أنيقاً بعض الشيء من بلاده تاركاً وراءه كرسياً خشبياً نخرت فيه أصغر حشرات الكون ولم يكن معتليه ليخجل من ثقل وزنه والتنحّي عن عرشه الدنيوي ليريح شعباً أثخنته جراح وآلام وطعنات الظلاّم !! ،، بل سار ولاة الأمر في درب بعيد مخلّفين ورائهم دروباً لو كانوا مشوا فيها لجنّبوا أنفسهم عناء العودة المخزية ، التي حظي بها كل منهم أو سيحظى !!
ولعلّ الباقين يضعون ألفاً وخمسمائة وستة وعشرين خطّاً أحمر لن يتعدوها بعد الآن خوفا من سخط الشعب وغضبه ،، بعد ما أثبت أهل تونس ومصر لكل العالم أن الباطل لا يدوم وأن الحق لا بدّ وأن يشرق ولو بعد حين ، وربما ركب الخوف أحدهم فقام بسحب أمواله من البنوك السويسريّة ووضعها في كيس قماش ودفنها تحت الشجرة الكبيرة وفوقها عود خشبيّ ليحفظ مكانه حتى لا تجمّد تلك البنوك أرصدته في حال الخلع أو الإسقاط أو الانقلاب ، أو كي لا تبث وسائل الإعلام وثائق عن المبالغ التي يملكها وأرصدته المكنوزة المدّخرة من دماء الشعب وتعب الكادحين والمساكين ،، ويا لحسن حظه لو كانت جدته على قيد الحياة فستكون له خير أمين للسر والمال ، أما العقلاء وأصحاب الحنكة المغفّلة منهم والحكمة الضائعة فسيتظاهرون مع شعوبهم في الشوارع وكأنهم يتقنون فن ( الضحك على اللّحى ) ، مدّعين أنهم غير راضين عن سياسة حكومتهم التي وضعوها هم بأنفسهم كما يحدث في ليبيا ، لكن هيهات هيهات ، فالشعوب العربية لم تعد تؤمن بسياسات التغيير أو دعابات الإصلاح وأوهام التحسين والتطوير ، ولم تعد تنطلي عليهم طرفة العدالة الاجتماعية وتفعيل دور الحزبية والديمقراطية في البلاد ، لقد سئمت شعوبنا من الوعود المؤجلة والفهم المتأخر والاستيعاب البطيء جدا لكل مطالبها والحقوق المطالب بها ، فما وجدوا أمامهم وهم أهل الأرض إلا المعاول لاقتلاع شجر الخبث والظلم والنفاق والتي أثمرت بأوراق كتب عليها ( وإذا وعد أخلف ) !!
إن غياب أوجه الديمقراطيّة الحقّة والشورى الإسلاميّة في بلادنا العربية هي من أول الأسباب التي أدت إلى ما نعيشه حالياً من مآسٍ وتردّ في الأوضاع السياسية والاجتماعية وغيرها ، فحين تسيطر الأحزاب الوطنية الحاكمة على أمور البلاد وتكون هي الوحيدة على الساحة السياسية فهذا يعني أننا أمام دكتاتورية متخفية وراء الكواليس ، تمارس ما تبغي وتريد في أرجاء الأرض دونما أي مانع أو حاجز يثبطها عن مسارها ، فتمسي ثروات الدولة في أيدي رجال الإقطاعيات والتجار والأغنياء فيزداد الغنيّ غنى والفقير فقراً ، لتعاني الأمة بعد ذلك فوارق جسيمة وطبقات متباعدة وانحلال ماليّ لا يوصف ، فتصعب بعد ذلك الحياة وتتأزم الأوضاع وتتردّى المعيشة لغالبية الشعوب لتثور بعد ذلك وحينها لن يجدي أي إصلاح ولن يفيد أي تغيير إلا من الجذور !!
إن أخطاء العقود السابقة تعود للظهور في أيامنا هذه ، فأحداث الثمانينات والسبعينيات لا تزال صورها عالقةً في أذهان كل أحرار العرب وذائقي الهوان ، ويجسّدها الكثير من ولاة الأمر واقعاً مُرّاً في الساحات وخلف القضبان ويأمرون بشتى أنواع التعذيب والاضطهاد لتروى بعد ذلك قصصاً تقشعرّ لها الأبدان ، ويزيدون فوق ذلك بأن يمنعوا حرية الرأي ويكسرون أقلام الثوار ويُخرِسون أصوات المحدّثين ويتوعّدون ويهدّدون ، وربما لاقت عصاهم الحديديّة أضلعاً غضّة أو عفا عليها الزمان لتتكسّر عليها لكنني وكما ذكرتُ فإن أخطاء العهد الغابر لن يعود للتكرار مراراً ، فالانفتاح والوعي الذي شمل عقول الأمة وتغلغل فيها أشعل شرارة البدء بالثورة دون خوف أو مهابة من سياط و قيود وقضبان أبديّة ، فأيام الدولة العثمانية ( رجل أوروبا المريض ) باتت أسطورة خياليّة لم يعد يصدّقها حتى الصغار !!
قد يكون الحل الأمثل الآن لكل من يخاف من كلمة ( التنحّي ) البدء بإصلاحات وتغييرات وتعديلات على مواد الدستور بل وحذف بعض منها وإطلاق العنان بعض الشيء لأحزاب المعارضة وبعض المؤسسات ذات التوجهات السياسية ،، وإضافة بعض الأسطر في الجرائد اليومية بل وعدة صفحات لأقلام الكتاب والنقّاد ، ونزع صوره من الشوارع وأعمدة الكهرباء ، والاكتفاء بها على حدود بلاده مع الدول الأخرى ، لنودّعه ونستقبله مرة واحدة مع كل زيارة ،، فإصلاح الذات يبدأ بالراعي ليشمل بعد ذاك الرعيّة وإلا كان مآله في ذلك القصر المنفيّ مع أمثاله وبواب ذو تسعين سنة مما يعدّون ليقرع بابه ويسمع : " من بالباب ؟؟ " ،، حينها لن يجيب كما كنا نفعل ونحن صغاراً : " أنا الدهان !!! جئت لأدهن البيت!! "