من البحرين إلى الرباط، مرورا بالرياض والكويت والدوحة وعمان وصنعاء ودمشق وبيروت والخرطوم والجزائر ونواكشوط وأسمرة، تتسمر العيون على مايجري في مدن ليبيا، وشوارعها، وساحاتها، ومستشفياتها، وعلى حدودها الغربية مع تونس، يحبس الجميع أنفاسهم بانتظار الفصل في هذه المعركة غير المتكافئة، وهذه الحرب غير الشريفة التي يشنها نظام "جماهيري"، "شعبي"، "اشتراكي"، على شعب تجرأ بعد أربعين عاما أن يرفع درجة اعتراضه وثورته إلى العصيان المدني، بعد أن أعيته الحيل مع هذا النظام الموميائي الذي بلغت أكاذيبه أقاصي الأرض وطبقت دعاواه وخيانته وحماقاته الآفاق، يحكم ويتحكم بشعب ضعيف مختطف عن طريق أذرعته الاخطبوطية الثمانية، الذين لايستحون من الخروج على العالم للتحدث باسم جماهيرية أبيهم العظمى، وكأن انتسابهم إليه يمنحهم الشرعية المطلقة في حكم البلاد ونهب العباد، وفي أي دولة ؟ دولة الشعبيات، وحكم الشعب..الذي لاوجود له إلا في مهرجانات التطبيل والتزمير للحاكم الفرد، والرقص والغناء "الأهبلين" – من اعلُ هُبل، وليس من الهَبَل بالاستعمال الشعبي للكلمة - في حفلات النفاق الجنوني المطبق، في حضرة الذبح المسلط على الأعناق، وشراء الذمم رخيصة في سوق نخاسة الهوان الإنساني، التي يبيع فيها الإنسان نفسه ووطنه وشعبه وإيمانه وحريته وكرامته بحفنة من ماله المنهوب !
مايجري في ليبيا ليس حربا يشنها نظام متسرطن على شعب أعزل، خدعته وسائل الإعلام، وخدع نفسه ببضعة أسلحة اقتنصها من هنا وهناك، لكنها حرب عالمية يشنها العالم بالنيابة ضد ثورة المنطقة العربية على الأنظمة التي تحكمها، المستعمر يتواطؤ مع "القذافي " وأبنائه للقضاء على هذه الثورة في مهدها، وتأديب شعوب المنطقة، ممن تظن في نفسها القدرة على اتباع خطوات الشعبين في تونس ومصر، بل تظن أنه آن الاوان ودقت ساعة الخلاص من الأوضاع المزرية التي يعيشها الوطن والإنسان في المنطقة العربية، المستعمرة من أقصاها إلى أقصاها، تستوي في ذلك تلك الأقطار التي عاد المستعمر إليها بخيله ورجله، أو تلك التي خلف فيها عملائه يحكمون البلاد بالنيابة عنه، يحققون له كل مآربه، ويحفظون مصالحه، على الرغم من كل مايمثله ذلك من تعارض وتضارب مع مصالح الشعب والأمة.
"النظام العالمي" و "المجتمع الدولي"، ومعه أنظمة عربية مماثلة من حيث الشكل والمضمون للنظام الليبي، منحوا القذافي الوقت الكافي، والأسلحة اللازمة – وبعضها صنع في إسرائيل-، ليقتل شعبه، ويكفيهم شر هذه الثورة الإنسانية العظمى، المرشحة لتكون من أعظم ثورات الأرض .يتواطؤ الغرب بأجنحته الحاكمة، وانتماآته السياسية، ومؤسساته الديمقراطية، وتطبيله وتزميره بحقوق الإنسان، مع العقيد الذي لا يتورع عن إجراء عمليات تجميل لم تغنه عن قباحة الصورة، صورة الاستبداد المطلق، الذي يمتهن الفساد بكل أبعاده الأفقية والشاقولية، ولايعترف بالشعب، لأن الشعب لاوجود له في جغرافيته النفسية والفكرية،"من أنتم" ؟! سؤال صادق، يطلقه رجل، حكم ليبيا 42 عاما، دون أن يكون لهؤلاء "الجرذان" و" المهلوسين"، أي وجود في ساحة وعيه التي لم تكن قاصرة، ولكنها وفي الغالبية العظمى من الحالات كانت غير صائبة.
ولم لايقصف "العقيد" شعبه بالطائرات ؟ ومايفعله ليس بدعاً عما جرى ويجري في المنطقة العربية منذ خمسين عاماً، لم يكن العقيد أول من ضرب شعبه بالطائرات – ولن يكون قطعاً الأخير! هذه مزحة ! فلم يبلغ عدد قتلى ليبيا حتى الساعة ربع أعداد القتلى الذين لقوا مصارعهم على أيدي أنظمة اخرى ممانعة ومقاومة، أو غير ممانعة ولامقاومة !، وخلال ساعتين فقط من دكّها معاقل المدن أو القبائل الثائرة بالطائرات !، يومها .. لم تكن في الساحة قنوات إخبارية عربية تنقل الحدث،ولاإنترنيت وهواتف محمولة تستطيع كشف المستور، كانت هناك وفقط إذاعة لندن الناطقة بالعربية، وعلى الرغم من أن جميع وسائل الإعلام العالمية كانت قد نشرت تلك الأخبار الفظيعة، فإن الرأي العام العربي لم يستطع الإلمام بها، وقد استطاعت تلك الأنظمة خديعة الرأي العام بلافتات المقاومة والتصدي والقضية، أو لافتات الوصاية على الإسلام، وحمايته من المسلمين!.
في أكثر من قطر عربي، تعاملت الأنظمة مع شعوبها الثائرة بتلك الطريقة، التي لاتليق إلا بالعدو، والتي شهدناها قبل عامين في غزة على أيدي الصهاينة القتلة، وماكانت لتحدث في غزة ولا في لبنان لولا أنها كانت قد حدثت وتحدث في أكثر من واحد من أقطار المنطقة!.. حلف غير مقدس بين الاستعمار الغربي والاستيطان الاسرائيلي والأنظمة الحاكمة، يطبق الخناق على الأمة، ويستميت من أجل بقائها في قمقم العجز والهوان. بلاد العرب أوطاني .. من الشام لبغدان، وهي اليوم كلها من البحرين إلى أسمرة، تنتظر، تدعو، تفور،تصلي، وتغلي، وتحتمل أكاذيب النظام الليبي الذي يختلف عن غيره من الأنظمة المجرمة بشيء واحد، الوقاحة !، فلئن كانت بعض أركان النظام العربي القائم اليوم تستمد مشروعيتها من إخلاصها في خدمة مصالح المستعمر، الذي مازال يُحكم قبضته على أعناقنا من خلال هذه الأنظمة، فإن القذافي وبكل وقاحة وصدق يقارن قمعه لشعبه بسحق اسرائيل للشعب الفلسطيني، ويعلن ..وقد أصبح في مصيدة الدم والجراح والآلام الإنسانية التي لاتكاد تطاق، يعلن تفانيه في خدمة أسياده من خلال رسائله التي يذكرهم فيها بخدماته، ويريد منهم الاعتراف بمشروعية اللامشروعية، وبضمان توريثه الأرض والشعب والمليارات والامتيازات والاستثمارات لأولاده من بعده،فلا صلاح ولاحياة للشعب الليبي إلا به وحده!، ولاإصلاح إلا على يد ابنه مجرم الحرب، الذي يقتل ويذبح الشعب ليأتيهم هو بالديمقراطية وحقوق الإنسان المفصلة على قياس رأسه الموسولوني الفاشستي الصغير ! هكذا ! بكل أبعاد الفاجعة التاريخية التي تريد أن ترغمنا على العودة إلى قرون أوربا الوسطى في مطلع القرن الواحد والعشرين.
هذه المعركة التي تجري اليوم في ليبيا، معركة الأمة بالنيابة، معركة الحق والباطل، معركة الأنظمة مع الشعوب، معركة الحقيقة مع البهتان، معركة الواقع البئيس مع المستقبل الذي يجب ان يكون مشرقا، إنها معركة مصر وتونس بالنيابة مع الذين تجرأت مصر وتونس على الوقوف في وجوههم، معركة اليأس مع الأمل، معركة الاستعمار الأخيرة التي يقودها بالنيابة عنه قذاف الدم والكذب والخسة، وأبناؤه المتربعون على مقالب العمالة والعار، معركة أوربة العجوز المهترئة مع آخر جيوبها التي تمتص دماءها بأنياب زرعتها في أحشائنا يوم انسحبت عسكريا من أرضنا، وتركت هؤلاء القوم يقومون نيابة عنها بالاعمال القذرة، لتغسل يديها ب "البارفام" الذي لم يغنها في شيء عن روائح الدم العالقة بهما.
لن تنفع الأنظمة المتسرطنة في المنطقة العربية جهودهم المستميتة لإخفاء الحقيقة شيئا، قتلى الغارات الجوية ضد ثورات الشعوب، أولئك الذين ذبحتهم هذه الأنظمة في سجونها تحت جنح الظلام، ثم جاءت بالجرافات لإخفاء جرائمها، إن الشهداء لايموتون، لأن من أعراف قبائل مصاصي الدماء، أن الحياة توهب لمن امتص هؤلاء القوم دمه! إنني أراهم، آتون إليكم جماعات وأفرادا، قائمون من قبورهم السرية، يلملون عظامهم التي حاولتم إخفاءها وتفتيتها، قادمون إليكم في صمت وصبر وتصميم على الوصول إلى أعينكم الوقحة، لينشبوا فيها اظافرهم، وليسألونكم بأي ذنب قتلوا ؟، ذنب الحرية، الذي لن يغفره لنا الاستعمار، ولاأذياله، ذنب القيامة، ذنب البعث العظيم، لأمة لم ولن تعود إلى المقبرة، لقد أذّن الفجر في ساحة التحرير، وهرب الطاغية في تونس، وهاهي ابواب الحرية الحمراء تدق بكل إصرار وعنف في ليبيا، ليبيا الشعب، ليبيا الشباب، ليبيا الأمة، ليبيا الحرية، ليبيا الصامدة الثائرة، ليبيا الغد والإنسان، ليبيا التي عادت للامة، بعد طول نأي واختطاف، وبقي ان تعود الامة إلى ليبيا، تمد لها يد العون، تواسي جراحها، تضمد آلامها، تمسح دموع رجالها، وتحمل أطفالها، يغنون للفجر الذي يشق طريقه عبر مشاهد الدمار والخراب والآلام، يشق طريق مصرا على اختراق الحجب.
ليبيا التي يقتل شبابها، وأطفالها، من أجلي وأجلك، من أجل اطفالنا ومستقبلهم، أن يستطيعوا العيش في حرية وكرامة، ليبيا التي تدمر شوارعها وبيوتها من أجل أن تحيا المنامة وجدة وأبوظبي والعيون ومراكش بسلام، ومن أجل أن تسكن دمشق والقاهرة ومقديشو وعصب والنعمة الأمن والحرية، ومن أجل أن يجد الناس أوطانا كريمة لايهان فيها الإنسان، ليبيا تستشهد اليوم من أجلكم أيها الناطقون بلغة القرآن ، من أجلك أيها الغد، فماذا نحن فاعلون لليبيا؟