مشاعر مختلفة ومضطربة تجتاح المرء، وهو يرى احتفال بنغازي بقرار مجلس الأمن تطبيق الحظر الجوي اخيرا على ليبيا بشروطه وملابساته، بعد أن منح "المجتمع الدولي" النظام في ليبيا شهرا، ليحاول استعادة سيطرته على الدولة والشعب، لكن صمود الثوار الليبيين وعزمهم وتصميمهم، حال دون أن يستطيع القذافي وأبناءه استعادة أمجاده الواهية، وإحكام السيطرة من جديد على شعب كان قد نهب ثرواته الهائلة، وسامه سوء الذل والعذاب .

على الرغم من المبررات الكافية التي قد يجدها أهالي بنغازي للاحتفال بذلك القرار، لردع هذا النظام الإجرامي، ولجمه عن الولوغ في الدماء، بعد أن استنفذ كل وسائل القهر والتركيع، حتى وصل به الحال ان يقطع عن الناس الماء والكهرباء، ويهددهم بأعراضهم ودمائهم، فإننا لانجد حلاوة لتلك اللحظة الأليمة، حيث لانصر ولاهزيمة. فلم ينتصر الشعب، ولم يُهزَم الطاغية الجبان الذي يستأسد على شعبه، لقد انتصر المجتمع الدولي بقدرته على حياز كل مصالحه في الوقت الذي يبدو فيه المخلص والمنقذ، وانهزمنا، انهزمنا لأننا وللمرة الثالثة ومنذ غزو الكويت، نضطر للاستعانة بالآخرين للخلاص من طغاتنا، إنها ساعات مريرة تلك التي تحتاج فيها الأمم للاستعانة ب"الأعداء" لتتخلص من ذوي القربى، ولقد تكررت هذه اللحظات في تاريخنا القريب والبعيد، حتى أن حكامنا أنفسهم وعلى رأسهم القذافي المذهول، كان قد استعان بإسرائيل لإعادة سيطرته على ليبيا !

لم يترك لنا حكامنا خيارات كثيرة في معاركنا معهم من أجل الحرية والكرامة والحياة، لقد سدّوا الأبواب في وجه الأمة، إلى درجة استعانتها من الرمضاء  بالنار، معظمهم اليوم مابين مرقع ومقرقع ومفرقع، لهم بطائن لاتسمع ولاتعي ولاتفهم، يستمدون منها وجودهم، وتستمد منهم قوتها الشيطانية على البطش الوحشي، وبينما يقوم البعض منهم بالاستعانة بالعسكر لقمع الثورات، يقوم آخر بمعالجة شعبه  الصامد المتألق المذهل، بالغازات السامة المحرمة، ويقوم ثالث برشوة شعبه بالمليارات التي لايدري أحد من أين جاء بها على حين غرة، وكأنها كانت قد سقطت منه سهوا! مليارات تنهض بها أمم ودول ومدنية، لكنها في سياق رشوة الشعوب سترمى في مقالب التضييع والترهات، بينما يستصدر الرابع مذكرات قضائية بحبس الأحرار الثوار الأبطال، الذين وقفوا في وجه طغيانه الأعمى الذي أصم وأبكم شعبا لاقدرة لديه على رفع الصوت، ولاقدرة لرجاله على الثورة، فكانت نساؤه هن الرائدات وهن الثائرات وهن أشجع الشجعان في أرض الذل والاستكانة.

لايتعلم معظم حكامنا الدروس، ولايفقهون سنن الحياة، لأنهم لايتمتعون بأدنى قدر ممكن من الذكاء والإنسانية والأخلاق،  ولأنهم يحكمون شعوبا لا تحبهم ولاتثق بهم، وأوطانا لايخدمونها ولايحرصون عليها، لقد ركبوا ظهر الأمة وادّعوا نصرة القضية، التي باسمها خانوا الأمة والأمانة والحاضر والمستقبل والقضية نفسها! لاتجد فيهم حريصا على مشاعر شعبه ولاسلامة مواطنيه ولاأمن بلاده، لقد جعلوا خياراتنا محدودة للغاية، بين الامن والحرية، بين التهريج والتصفيق لهم أو الفرم في آلات تعذيبهم الرهيبة، بين الذبح والاستعانة بالعدو الذي أصبح صديقا وملاذا ! وأجارنا الله من من مثل زمن ملوك الطوائف!

نجد أنفسنا هذا اليوم العصيب، أمام تحديات تاريخية، تعيد رسم خارطتنا النفسية والفكرية، من هو العدو ؟ ومن هو الصديق؟ من هذا الذي يمدّ لنا يد العون، وقلبه على مصالحه وعينه على ثرواتنا ؟ ومن ذاك الذي غلّب مصالحه وشراكاته السرية على سيل الدماء وعذابات الشعوب ؟ من نحن؟ وماذا نريد؟ وإلى أين تمضي الأمة في هذه الايام المباركات باستيقاظ الشعوب، النحسات بأداء حكام أقل مايقال فيهم أنهم أغبياء عملاء!

أين ستتجه ليبيا ؟ وماذا تخبيء لنا الأيام القادمة ؟ هل هي الحرب الأهلية؟ هل هو انقسام ليبيا؟ هل هي قدرة الشعب على إخراج هذه العائلة الحاكمة من أرضه وحياته، وهو ليس بالأمر السهل، وماهو الثمن ؟ ماهو الثمن الذي سندفعه عاجلا وآجلا لهذه المساعدة الغربية الأممية ؟ وهل نحن قادرون على تحويل هذه المساعدة إلى فعل إيجابي في عالم البناء الاجتماعي، والقرارات السياسية، ونهوض الأمة والإنسان، وبدء مرحلة جديدة في تاريخنا تتغير فيها كل الأشياء، بدءا من نظرتنا للإنسان والوطن، وانتهاءا بنظرتنا إلى القضية الفلسطينية، وإمكانيات التعامل معها، لأنها أولا وآخرا هي القضية، وهي التي تطوف حولها كل عذاباتنا وثوراتنا وآمالنا، وإليها يجب أن تحج كل تطلعاتنا نحو الغد والمستقبل .

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية