الحديث عن جامعة الدول العربية ذو شجون وأشجان. بداية فهذه الجامعة لم تكن في الحقيقة إلا من بنات أفكار الاستعمار البريطاني الذي فرضها على الأنظمة العربية آنذاك كبديل مسخ لمؤسسة وحدة عربية قومية حقيقية. وليس تجنٍّ عليها ولا خروجاً عن جادة الصواب القول بأنها كرست روح الاستقلالية في إطار سيادات قطرية ضيقة مستقلة عن بعضها ضمن حدود مصطنعة باركتها هذه الأنظمة، وعملت على الحفاظ عليها والدفاع عنها، وخاضت على شرفها نزاعات وصراعات مع من يفترض أنهم أشقاء وأبناء جلدة واحدة، ويؤمنون بالوحدة العربية الكبرى.
وإذا كان هذا هو فحوى الأسس التي قامت عليها، فإن سجلها الأدائي والإنجازي دليل آخر على عقمها وافتقارها إلى أبسط بسائط العمل القومي على اعتبار أنها البيت العربي الذي تحت سقفه وفي أحضانه تعقد المؤتمرات والاجتماعات واللقاءات والمشاورات العربية، وقبل هذا وذاك فإنه يفترض بها أن تكون " مصنعاً " لمشروعات قومية ذات رصيد من الإرادة والنوايا الصادقة لتوظيفها على أرض الواقع العربي.
إلا أن المؤمل شيء والواقع شيء آخر مختلف تماماً. فعلى مدى ستة وستين عاماً هي عمرها الزمني " تأسست في الحادي والعشرين من آذار 1945" عجزت أو تعاجزت هذه الجامعة أن تطرح مشروعاً قومياً وحدوياً واحداً على أي صعيد، سواء كان اقتصادياً أو ثقافياً أو تربوياً أو إعلامياً أو سياسياً.
مثالاً لا حصراً، فعلى الصعيد الاقتصادي لم تخط خطوة واحدة على طريق الوحدة الاقتصادية، فتبخرت أحلام المواطن العربي في السوق العربية المشتركة، وظل يتحسر على عملة عربية موحدة تجسد هذه الوحدة. وعلى ما يبدو أن هذه السوق قد شطبت من أجندتها وأجندة الأنظمة السياسية العربية.
على الصعيد الثقافي ليس هناك أي شكل من أشكال الوحدة الثقافية العربية. ولعل آخر اجتماع لوزراء الثقافة العرب المنعقد تحت رعايتها قد قطع الشك باليقين حين لم يتفق على إنشاء فضائية الثقافة العربية.
أما الصعيد التربوي لا يقل خيبة عن مثيليه السابقين، فقد ظلت المناهج التربوية في كل قطر عربي ترزح في قمقمها الإقليمي التي تطاولت عليها أيدي الرقيب الأجنبي، فسيّرها وفقاً لرغباته وأهوائه. وأما على الصعيد الإعلامي فالحديث عن فضائية عربية موجهة كان زوبعة في فنجان وهدأت منذ سنوات. وظل مشروع صحيفة أو إذاعة عربية مشتركة من أحلام اليقظة للمواطن العربي الغيور على أمته.
أما الحديث عن الصعيد السياسي فليس هناك سوى مؤتمرات القمة الدورية والطارئة التي نافت عن الثلاثين، والتي عقدت على مدار ما ينوف عن خمسة عقود من الزمان، وما زالت تعقد، والتي أسفرت عن قرارات هزيلة لم تصل إلى سقف الأزمات العربية المعاصرة، فساهمت بذلك في تفاقمها وتوليد المزيد من مشاعر الإحباط واليأس لدى المواطن العربي.
في ضوء هذا كله ، و مما لا شك فيه ، فإن المواطن العربي البسيط يسأل نفسه وغيره: ما الفائدة من استمرار مؤسسة كجامعة الدول العربية التي هي في واد وقضايا شعوبها في واد آخر؟ وهو يسأل أيضا هل تأسست هذه الجامعة لكي تكون هدفاً بحد ذاته، ولتكون بالتالي أعلى سقف للأماني القومية في الوحدة، أم يفترض أنها وسيلة لمنظومة من الأهداف القومية تتمثل في تحقيق التحرر والحرية وكافة أشكال الوحدة بالإضافة للدفاع عن القضايا القومية وفي مقدمتها القضية الفلسطينية التي سبقت ميلاد الجامعة، وما زالت تتراجع تحت سمعها ونظرها إلى أن وصلت إلى هذه الحال المزرية؟
وما دمنا بصدد الحديث عن القضية الفلسطينية، فلنتحدث عن ثلاثة أمثلة من إفرازاتها. المثال الأول يتعلق بالاستيطان الذي استشرى في الأراضي الفلسطينية والقدس التي أوشك أن يبتلعها التهويد. المثال الثاني يتعلق بحصار غزة الخانق، وهنا يتبادر إلى الأذهان سؤال خطير: ماذا فعلت جامعة الدول العربية غير التقاعس والتخاذل والصمت المريب؟
المثال الثالث يتعلق بالأحداث الجارية في ليبيا، لم تجد هذه الجامعة وسيلة غير التوجه إلى مجلس الأمن لاستصدار قرار الحظر الجوي الدولي فوق الأراضي الليبية، وكأن الأمر لا يعنيها بأي حال من الأحوال، وقبل ذلك تعليق مشاركة الوفد الليبي في الجامعة. السؤال الذي يطرح هنا: ألم تجد الجامعة وسائل غير تلك التي التجأت إليها؟، والتي أقل ما يقال فيها إنها وسائل سالبة، تدل على أن الجامعة ليس لديها أية حلول إيجابية تجاه أحداث ليبيا المؤسفة، ولا تجاه أية قضية عربية مهما بلغت خطورتها، وهذا غيض من فيض.
إن هذه الأسئلة المطروحة ليست بحاجة إلى كبير عناء لمعرفة الإجابة عنها. إن الدلائل والقرائن تؤكد أن هذه الجامعة هي السقف الأعلى للأماني القومية، وأنها هدف بحد ذاته وأن القضايا القومية بدءاً بالقضية الفلسطينية وقضية القدس ومروراً بقضايا ليبيا وكل الأقطار العربية التي تهب عليها رياح التغيير، و وقوفاً عند القضية العراقية، إن هذه القضايا جميعها وما أفرزته وما يمكن أن تفرزه من تحديات خطيرة ومزيد من المآسي والكوارث على العالم العربي، إما أنها لم تعد قضايا تلامس المشاعر القِطرية السائدة والمتحكمة فيها، أو أنها عاجزة أن تقوم بردود أفعال أو مبادرات حيالها توظف في خدمتها ما وهب الله العالم العربي من طاقات وموارد وإمكانيات.
كلمة أخيرة. في ضوء هذه الرياح التغييرية التي تهب على كثير من أقطار العالم العربي، والتي آتت أكلها في بعضها، فإن المطلوب عدم الوقوف على أطلال الجامعة العربية، فليس هذا– معاذ الله – تجنٍّ على العروبة أو رفضا لها أو خروجاً عليها.
إن المطلوب هو التجديد والتحديث في الطرح في ضوء تحديات المرحلة.. إن الأنظمة السياسية العربية مطالبة أن تنفض عنها غبار تراكمات العجز والتخاذل والشرذمة والتبعية حفاظاً على هويتها العربية وحاضرها ومستقبل أجيالها. إنها بحاجة إلى مؤسسات قومية لا قِطرية تنقل الوطن العربي بثقة واقتدار إلى القرن الحادي والعشرين قوياً عزيز الجانب، لا أن تبقي عليه كسيحاً تحت مظلة الماضي.
إن جامعة الدول العربية كي تحظى بقبول وجودها على مستوى المواطنين العرب، لا بد لها أن تعيد بناء نفسها من جديد. لا بد أن تعيد النظر في فعاليتها على كافة الصعد السياسية والاقتصادية والثقافية. وإلا فإنها سوف تصبح من الماضي.