ما الذي يربط تل أبيب بواشنطن؟ سؤال ذهب العقل العربي كل مذهب في محاولته الإجابة عنه، ما بين تفسير ديني يتأسس على وجود تحالف ديني مسيحي يهودي يستهدف منطقتنا العربية الإسلامية ،
لأسباب دينية محضة، وهو تفسير لا يعدم أن يجد ما يعززه من شواهد، وتفسير نفعي يرى المشروع الصهيوني مجرد أداة استعمارية رأسمالية لا دين لها، أو على الأكثر تتستر وراء ديباجات دينية يهودية، بهدف حشد «المادة البشرية» التي يقوم عليها المشروع. وبين هذا وذاك تفسيرات عنصرية تعطي أوضاع اليهود الشرقيين في الكيان الصهيوني مركزية كبيرة وتعتبرها دليلا قاطعا على أن لون البشرة يلعب دورا أكبر من الدين واللغة. والتفسير التآمري بطبيعة الحال حاضر دائما له أنصاره، وله بغير شك ما يبرره.
تحالف أم تشكيل حضاري؟ وأول ما يشوب هذه التفسيرات من قصور تغليبها عنصرا واحدا على حساب العناصر الأخرى في تفسير العلاقة بين الولايات المتحدة والكيان الصهيوني وكذلك في توصيف الصراع، والتوصيف أول مراحل التفسير، فالصراع الدائر في المنطقة العربية صراع مركب ممتد. كما أن محاولة فهم العلاقة بين تل أبيب وواشنطن تحدث بعد أن تبلورت هذه العلاقة، فهي على المستوى المباشر الآني علاقة تحالف، وقد ينشأ تحالف بين عدوين لتحقيق هدف مرحلي وقد يغير طرف ما تحالفاته بحيث يصبح عدوا لحليف من حلفائه السابقين، بينما العلاقة بين العاصمتين أكثر من مجرد تحالف.
فعندما كانت الولايات المتحدة أقل انخراطا في السياسة الدولية كانت تقف موقفا مناصرا للمشروع الصهيوني، فصدر عن الكونغرس عام 1922 قرار يمكن اعتباره «وعد بلفور أميركي» وهو ما يصعب الربط بينه وبين الاضطهاد النازي الذي يتخذ مبررا لتعويض اليهود، بل إن الولايات المتحدة حتى هذا التاريخ لم تكن قد بلورت مشروعا واضح القسمات لدورها الدولي. وقد ورثت الولايات المتحدة ـ بعد الحرب العالمية الثانية ـ موقع بريطانيا في قيادة تشكيل حضاري هو الأهم على ساحة السياسة الدولية، وهو التشكيل الحضاري الإنجلوسكسوني البروتستنتي، ويضم: الولايات المتحدة وبريطانيا واستراليا ونيوزيلندا وكندا والأقلية البيضاء في جنوب أفريقيا.
جدل الجغرافيا والهوية وقد كانت صورة العالم خلال الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية متأثرة بالاستقطاب الثنائي الأميركي السوفييتي، بحيث ظن كثيرون أن الأيديولوجيا حلت محل الهوية، رغم أن الفترة نفسها حفلت بمؤشرات عديدة على الدور القوي الذي تلعبه الهوية في صياغة التحالفات. فمن المؤكد أن قرار فرنسا ألا تشترك في الجناح العسكري لحلف الناتو وإصرارها على الاحتفاظ بغطاء نووي مستقل عن الحلف، ثم سعيها بعد ذلك لدفع مسيرة الوحدة الأوروبية للأمام وهي تعلم يقينا أن ذلك سيكون على حساب العلاقات الأميركية الأوربية يرجعان إلى إحساسها بتمايز على مستوى الهوية عن الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا.
ففرنسا الكاثوليكية بل أكبر دولة كاثوليكية في العالم ـ رغم علمانيتها ـ لم تكن لتقبل دور التابع في حلف سياسي عسكري تقوده دولتان تنتميان للتشكيل الحضاري الإنجلوسكسوني هما الولايات المتحدة وبريطانيا، وبالمثل وجدت بريطانيا أن ما يربطها بالولايات المتحدة الأميركية التي يفصلها عنها جغرافيا المحيط الأطلسي أوثق مما يربطها بالقارة الأوروبية والمسافة التي تفصلهما أقل بكثير من مساحة المحيط الأطلسي. وفي نهاية عام 1998 صدمت دول أوروبا عندما اكتشفت وجود تحالف سري إنجلوسكسوني بروتستنتي، وقد صدم حلفاء الولايات المتحدة الأوروبيون لأنهم اكتشفوا أن استراليا ونيوزلندا القابعتين في أقصى شرق العالم أقرب للولايات المتحدة من حلفاء ربطتهم بالولايات المتحدة عضوية حلف الناتو. واكتشف الحلفاء أيضا أن الولايات المتحدة أنشأت مع هذه الدول شبكة تجسس هي الأكبر من نوعها في التاريخ هي شبكة «إيشليون» والتي تقوم باستهداف كل دول العالم بلا استثناء. وبطبيعة الحال لم تجد بريطانيا غضاضة في أن تسهل للولايات المتحدة أن تتجسس على جيرانها الأوروبيين.
الهوية تهزم الأممية وقد كشف بول براكين أستاذ العلوم السياسية بجامعة يال الأميركية، وهو فضلا عن ذلك كان مستشار معظم عمليات إعادة التقويم التي أجرتها الحكومة الأميركية في حقبة ما بعد الحرب الباردة وضمنها تلك التي أجرتها وزارة الدفاع (البنتاجون) ووكالة المخابرات المركزية الأميركية (C.I.A)، كشف في كتابه: «النار في الشرق: تزايد القوى العسكرية الآسيوية والعصر النووي الثاني» عن حقيقة مثيرة هي أن الأوروبيين في حقبة الاستعمار والهيمنة قاموا بخلق وتحديد وتسمية حدود قارة آسيا، وكانت حدود ما سمي: «العالم القديم» أقل وضوحا من حدود ما سمي: «العالم الجديد» الذي كانت تفصله عن قارات العالم القديم محيطات. ومن الناحية الطبوغرافية كان من الممكن اعتبار آسيا وأوروبا قارة واحدة فلا يفصل بينهما محيط أو بحر لكن صانعي الخرائط فصلوا بينهما عند جبال الأورال اتساقا مع مناخ سياسي لا بسبب ضرورات منطقية، أي أن الفصل بين القارتين في علم الجغرافيا فصل ثقافي وسياسي أساسه مفهوم للهوية، وهو درس ينبغي استيعابه جيدا قبل تلقي العلوم الاجتماعية الإنسانية الغربية عموما متقبلين ما تدعيه لنفسها من حياد وعالمية.
ويضيف بول براكين بعدا آخر للقضية مشيراً إلى أن روسيا في القرن الثامن عشر كانت تسيطر على ممالك أخرى خرجت للتو من حكم المغول، ولرغبتها في ألا تشوه هذه الممالك صورتها كدولة «غربية»، فقد سعت إلى أن تكون «روسيتان» إحداهما عصرية غربية والأخرى متوحشة لا تريد التخلص منها طمعا في ثرواتها. ورغم ما أحدثه قيام الاتحاد السوفييتي من تغيير في بناء السلطة السياسية ونشوء دولة «أممية» حاولت صهر كل القوميات، فإن هوية روسيا بقيت تحت الجلد كواحد من أهم العوامل التي تصوغ السياسة السوفييتية.
وكانت الولايات المتحدة في حقبة الثمانينيات ـ والكلام لبول براكين أيضا ـ تعتبر أن الاتحاد السوفييتي لن يعبأ (في حالة نشوب صراع نووي) إذا تعرضت أوزبكستان أو كازاخستان للصواريخ، لذا كانت الولايات المتحدة توجه صواريخها نحو «روسيا الأوروبية» لضمان أن تحدث الضربة أقوى تأثير. ولم يبق بعد هذه المعلومات المدهشة والصادمة إلا أن نصف التجربة السوفييتية التي ادعت أنها فوق القوميات بأنها «الأممية العنصرية»!! ولا عجب في التناقض فالهرب من الهوية حتى لو كان للارتماء في أحضان الأيديولوجيا يفجر المتناقضات.
محور تل أبيب ـ كيب تاون ولعل العلاقة التي كانت بين الكيان الصهيوني ونظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا تمكننا من أن نضع العلاقة بين هذا الكيان والولايات المتحدة في سياق مختلف. فقبل انهيار نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا كانت الدولتان ترتبطان بعلاقة شراكة وثيقة إلى درجة مدهشة، ورغم أن الطرفين يجمعهما ـ كما ذهب كثير من المحللين ـ كونهما منبوذين في محيطهما الجغرافي فيما يعد حالة مثالية من حالات التناقض الواضح بين الجغرافيا والهوية، فإن الأمر كان أعمق من مجرد تحالف بين منبوذين. فالنظام العنصري والكيان الصهيوني كلاهما قام على الاستيطان الإحلالي بمعنى عدم الاكتفاء بالاستئثار بالسلطة السياسية وصولا إلى إحلال جماعة بشرية محل «السكان الأصليين»، وكلاهما نشأ في إطار مصالح التشكيل الإنجلوسكسوني البروتستنتي. وترجم هذا التوافق نفسه على مستوى العلاقات بين الكيان الصهيوني ونظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا إلى علاقة اعتماد متبادل في مجالات عديدة، فعلى المستوى التجاري كان نظام الفصل العنصري أهم شركاء الكيان الصهيوني التجاريين، ولم يكن التعاون العسكري أقل قوة فأرسل الكيان الصهيوني متطوعين إسرائيليين ليحاربوا قوى التحرر الوطني، وأمدت جنوب أفريقيا حليفتها بالأسلحة وهكذا. وقد نشر منذ أيام خبر صغير مفاده أن متطوعين من الأقلية البيضاء في جنوب أفريقيا سافروا إلى الكيان الصهيوني لمساندته في مواجهة «الإرهاب الفلسطيني» حيث سيساعد هؤلاء في سد النقص في الوظائف المدنية الناجم عن استدعاء قسم من الاحتياطي للخدمة العسكرية. فزوال النظام السياسي العنصري الذي كان يضع جنوب أفريقيا في سياق تشكيل حضاري ذي هوية مغايرة هو التشكيل الحضاري الإنجلوسكسوني البروتستنتي، لم يمنع أعضاء الأقلية البيضاء ـ أو على الأقل قسماً منهم ـ من أن يتصرفوا حسبما تملي عليهم هويتهم، وهو ما لا سبيل لفهمه إلا بوضعه في سياقه الصحيح.
فقانون ميل النفس البشرية، وكذلك الدول في عالم السياسية، إلى من يشاركونها الهوية نفسها بما تعنيه من رؤية للذات والكون والآخر قانون ذو تأثير لم يضعفه تأسيس السياسة على المصالح، ولكنه للأسف لا يسري في المنطقة العربية التي لا تحرك السياسة فيها لا المصالح ولا الهوية!!!