في آخر خطاب له قبل أيام معدودة بحضور رئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو برلسكوني، صال جال بنيامين نتنياههو كعادته شارحا منظوره لحل سياسي بين الفلسطينيين والإسرائيليين يقوم أساسا على استبقاء الإستيطان الذي دافع عن مستوطنيه نافيا عنهم صفة المحتلين، وملصقا بهم صفة المواطنين الأصليين.

واستمرارا رفض أي حل قائم على الرجوع إلى حدود ما قبل الخامس من حزيران/ يونيو 1967، ومصرا على أن تظل القدس عاصمة الكيان الإسرائيلي، إضافة إلى منظوره المتمثل في رفض حق العودة.

وكان قد خاطب مؤخرا مجلس الكونجرس الأميركي، مكررا لاءاته المتطرفة برفضه حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، وبرفضه أن تكون القدس عاصمة لفلسطين، أو أن تنسحب قواته المحتلة إلى ما وراء خطوط الخامس من حزيران/يونيو، أو أن يفكك تلك المستوطنات التي أقيمت اغتصابا على الأراضي الفلسطينية.

 

في ذات السياق رسم "خريطة طريق" خاصة به وبسياساته المتطرفة تمثلت بتحديد "ثوابته" لحل من منظوره قائم على اعتراف الفلسطينيين بإسرائيل باعتبارها دولة قومية لليهود، وتواجد عسكري على نهر الأردن، واتفاق سلام ينهي النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، ويضع حدا لأية مطالب فلسطينية أخرى.

يمكن القول بأن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لم يأت بجديد في مجمل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، وإنما هو استمرار وتكرار بصورة أو بأخرى لمجمل سياسات  الحكومات الإسرائيلية التي سبقته أيا كان لون طيفها السياسي.

في خطابه هذا، أوهم نتنياهو الإيطاليين، وممثلي الشعب الأميركي بخاصة، والعالم بعامة أنه يسعى إلى السلام، وأنه جاد بتحقيقه. إلا أن حقيقة الأمر عكس ذلك تماما. إنه كان يتستر بقناع يخفي خطورة طروحاته، أو لنقل إنه جدار فصل آخر يريد أن يحجب وراءه كل الأعمال العدوانية التي دأبت قواته على اقترافها، والتي امتهنتها في الأراضي الفلسطينية سواء في الضفة أو القطاع، وهي تصب في خانة تلك العمليات التي قلصت مساحة العمران الفلسطيني جراء التدمير المريع الذي لحق بالوطن بشره وشجره وحجره، إضافة إلى كونها أوقعت أفدح الخسائر في الأرواح البشرية.

لقد تحدث نتنياهو في خطابه هذا عن خطوط سياسته، متوهما هو نفسه أنها تتقاطع ولا تتعارض. الخط الأول يتمثل بنبرة التفاؤل في أن هناك فرصة تاريخية لحل دائم للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، متمثلا بما سماه السلام الإقتصادي، مستطردا بسماحه بقيام دولة فلسطينية منزوعة السلاح، تتحكم هي بأجوائها ومياهها ومعابرها الحدودية، وكل ذلك شريطة اعتراف الفلسطينيين بيهودية دولة إسرائيل.

وأما الخط الثاني فيتمثل بسرده اللاءات الثلاث الموروثة عن كل السياسات الإسرائيلية السابقة بخصوص القضية الفلسطينية والتي تشكل التحدي المضاد لثوابتها. وتذكيرا فهي"لا لتقسيم القدس/ لا للعودة إلى حدود العام 1967 وتفكيك المستوطنات، وتوسيع القائم منها على ما أسماه النمو الطبيعي/ وأخير لا آخرا لا لحق العودة.

وهكذا وبكل بساطة جعل نتنياهو هذه الخطوط تتقاطع، وتوهم أن حلا سحريا سيهبط على المنطقة. وهو بهذا ظن أنه الوحيد في المعترك يخطط ما يشاء، ويقرر ما يشاء، ويفرض ما يشاء. وقد تناسى عامدا متعمدا أن هناك طرفا ثانيا في الصراع هو الطرف الرئيس الذي في يده مفاتيح الحل النهائي. إنه الشعب الفلسطيني الذي بدون رضاه وقبوله لا يمكن أن تكون هناك أية تسوية للصراع مهما كانت، ومهما طال الصراع من أجل إنهاء الإحتلال الإسرائيلي، وتحرير الوطن.

إن هذا الطرف الذي تجاهله نتنياهو كعادته، إسوة بكل السياسات الإسرائيلية السابقة هو الشعب الفلسطيني صاحب القضية والأرض، وصاحب الثوابت التاريخية التي حصنها بقرارات الشرعية الدولية بدءا بالقرار 194 ومرورا بالقرارين 242، 338 وانتهاء بالعديد من القرارات التي أنصفت الشعب الفلسطيني والتي شاءت السياسات الأميركية أن لا يكون لها توظيف وتفعيل على أرض الواقع.

إن هذا الطرف هو الشعب الفلسطيني الذي لم ينس في يوم من الأيام نكبته التي دخلت هذه الأيام عامها الرابع والستين، وهو هو الشعب الذي تجمعت طلائع منه على حدود فلسطين التاريخية لتثبت للعالم أن فلسطين مزروعة في ذاكرة الأجيال، وأن مفاتيح دور الوطن إرث مقدس ينتقل من جيل إلى جيل مهما طال زمن الإغتراب في منافي الشتات.

إن نتنياهو هذه المرة يتحدث وهو مطمئن إلى أن هناك توأمة روحية قائمة على الإنحياز الأميركي المطلق للسياسة الإسرائيلية، تجلت في عهد الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الإبن الذي أعطى وعوده للجنرال لشارون في حينه بإلغاء حق العودة، والإبقاء على القدس عاصمة للدولة العبرية، وشرعنة احتلال أراضي الفلسطينيين وعدم إخلاء المستوطنات وتفكيكها، أو الرجوع إلى ما وراء حدود الخامس من حزيران/يونيو 1967. وعلى ما يبدو فإن هذه التوأمة ما تزال قائمة في عهد الرئيس الحالي باراك أوباما.

إلا أن الأغرب من هذا وذاك، وتحت ظلال هذه الوعود وهذه السياسات الإسرائيلية التي يجترها نتنياهو، وهذه العمليات العسكرية القائمة على الإجتياحات والإقتحامات المستدامة للمدن والقرى والمخيمات الفلسطينية، وما ينجم عنها من اعتقالات واغتيالات وتكريس للحواجز التي تقطع أوصال الوطن الفلسطيني. والأخطر من ذلك تلك الإخطارات بهدم منازل الفلسطينيين في القدس، والتشريد لأهلها الشرعيين.

إن الحديث عن ما يسمى بحل الدولتين على لسان المسؤولين الأميركيين والأوروبيين، ولا يعلم إلا الله متى سيكون هذا الحل، هذا إذا ما كتب له أن يكون، يتهرب منه الإسرائيليون

ولا يذكرونه في أجنداتهم السياسية بأي شكل من الأشكال، ويتجاهلونه كونهم لا يؤمنون به، وعلى الأغلب أنهم لا يعترفون به. أو بصحيح العبارة وأدقها إن الدولة التي تحدث عنها نتنياهو في خطابه لا تحمل في طياتها أيا من عناصر الدولة التي يصر عليها الفلسطينيون، ولا حتى أي عنصرمن عناصر سيادة الدول الحقيقية.

إن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هنا: على أي أساس توهم نتنياهو في خطابيه أن مقترحاته هذه تحمل في طياتها أية بادرة سانحة لحل دائم؟. وهل يتصور أن الفلسطينيين في هذا العام هم غيرهم في الأعوام التي سبقته؟. أم أنه يتخيل أنهم سوف يتخلون عن ثوابت قضيتهم تحت ضغوط هذه اللاءات الثلاث التي ورثها عن السياسات الإسرائيلية منذ العام 1948 حتى هذه الايام؟.

باستطاعة نتنياهو والساسة الإسرائيليين الذين سبقوه أن يتخيلوا وأن يتصوروا وأن يتوهموا ما يشاؤون في أي مجال من المجالات السياسية باستثناء مجال واحد هو الثوابت الفلسطينية التاريخية الخاصة بقضيتهم المشروعة التي عانوا طيلة القرن الماضي على شرفها ما عانوه، وضحوا في مذبحها بالغالي والنفيس، وما زالوا يعانون ويضحون في سنوات القرن الحادي والعشرين الحالي.

إستكمالا وفي ذات السياق، فإننا نذكر هنا بالإستحقاقات التي لا يمكن تحت أي ظرف من الظروف أن يتخلى الفلسطينيون عنها، بعدما قدموا أقصى ما يمكن أن يقدموه وتنازلوا تنازلات قاسية ومريرة وقبلوا بمبدأ الدولتين على الأرض الفلسطينية التاريخية.

إن أولى هذه الإستحقاقات تتمثل في إنهاء الإحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وما ترتب عليه من مصادرة الأراضي الفلسطينية، وزرع المستوطنات عليها، وإلغاء كل الحواجز الأمنية التي شكلت ولا تزال أخطر معاناة للشعب الفلسطيني، وهدم جدار الفصل العنصري، وتحرير الأراضي الفلسطينية التي صادرها.

إن الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات لا يمكن أن ينسى أسراه في سجون الإعتقال الإسرائيلية. إن تحرير هؤلاء الأسرى يتصدر قائمة الإستحقاقات والثوابت التي لا تقبل المس بها أو الإنتقاص منها. عندها فإن الحديث عن دولة فلسطينية عاصمتها القدس كاملة السيادة غير منقوصتها يصبح له معنى. ولكن قبل هذا وذاك ينبغي أن يكفل حق العودة والتعويض من قبل الأمم المتحدة.

أما اذا كانت الحكومة الإسرائيلية أيا كانت تركيبتها، وكذلك حكومة الولايات المتحدة الأميركية التي سوف يصدر قانون عن مجلس الكونجرس التابع لها يحظر العودة إلى خطوط الرابع من حزيران/يونيو1967، ودول الإتحاد الأوروبي الرئيسة يعتقدون أن أي حل لا يقوم أساسا على إنهاء الإحتلال وكل عناصره ومركباته وإفرازاته المأساوية الكاثية في كل الأراضي الفلسطينية المحتلة، وأن الوقوف عند حدود الوضع الراهن هو إنجاز كبير، فثمة خطأ فادح وخطيئة كبرى وانحراف مقصود عن كل مشروعات السلام.

لقد دعا الفرنسيون إلى عقد مؤتمر سلام في باريس لحل قضية الشرق الأوسط "القضية الفلسطينية" بصريح العبارة، إلا أن الولايات المتحدة الأميركية غير راغبة في عقد هذا المؤتمر لأسباب تخص السياسات الأميركية المنحازة بشكل سافر إلى السياسات الإسرائيلية التي ترفض التفكير في أية إيجاد تسوية لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي كونها منهمكة في مشروعات توسعها الإستيطاني التي لا تقف عند أية حدود.

في اعتقادنا أن مؤتمر سلام دولي هو خير ضمان لأية تسوية يفترض أن تكون عادلة وشاملة ودائمة. أما أن ينفرد الإسرائيليون والأميركيون بفرض رؤاهم وتوجهاتهم فهذا لا يعني إلا إصرارا على إبقاء الأوضاع على ما هي عليه، دون السعي الحثيث إلى إيجاد حل لهذا الصراع الذي طال أمده.

كلمة أخيرة. إن استباق مفاوضات الحل النهائي بهذه اللاءات التي يرفضها الفلسطينيون قيادة وشارعا سياسيا، ما هي إلا امتداد لسياسات إسرائيلية ظلت على جمودها طوال ستة عقود ونيف من الصراع. وهي في أبسط معانيها عقبة كأداء في وجه أية عملية سياسية محتملة، وتؤكد أن الحديث عن فرصة تاريخية للسلام  في السنوات القادمة هو سابق لأوانه وضرب من الخداع السياسي، مرفوضة، تتنافى ومنظومة الثوابت التي لم يتنازلوا عنها، ولن يتنازلوا. وإن غدا لناظره قريب.

شاعر وكاتب فلسطيني

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية