لم يكُن أحدٌ يتوقّع أن تكون الأيام الأولَى من عام 2011م بداية لثوراتٍ تجتاح العالم العربي، وتطيح بأنظمة عتيقة متمسكة بالسلطة وحريصة عليها، على الرغم من أنه كان هُناك العديد من المؤشّرات والأحداث التي سبقت تلك الثورات والتي كانت تؤشّر بوضوح إلى اقتراب ساعة الصفر وبدء انطلاق الشرارة.
ولم يكن أحد يتوقع أيضًا أن تكون تلك الشرارة هي جسد ذلك الشاب التونسي "محمد البوعزيزي" على إثر تلكَ الصفعة المؤلمة التي تلقاها من إحدى الشرطيات التونسيّات، والتي كانت سببًا قويًّا بالنسبة له للقيام بإحراق نفسه كتعبير عن حالة الغضب والإحساس بالظلم الواقع عليه وعلى أمثاله.
ولعلّ اللافت في تلك الثورات أنها تركّزت في بلدان عربية معينة، وبالأخصّ تلك البلدان التي تَحكمها أنظمة ذات خلفيّة ثوريّة أو انقلابيّة!
وبغض النظر عن طبيعة تلك الثورات والانقلابات التي قامت بها تلك الأنظمة آنذاك، والتي كان بعضها -بالتأكيد- وليدة ظروف غير طبعيّة سببّتها عوامل داخليّة وخارجيّة أثّرت على تلك البلدان العربيّة التي كانت محكومةً بأنظمة ملكيّة أو انتدابية أسهمت دول الاستعمَار المنتصرة في الحربين العالميتين في تثبيتها وترسيخ وجودها، وبالأخصّ: بريطانيا وفرنسا، وغيرهما.
تلك الخلفية كانت من أهم أسباب بعض تلك الثورات والانقلابات العسكريّة كتعبير عن رفض الشعوب العربية للهيمنة الاستعماريّة، وللأنظمة التابعة أو القريبة منها، وكرغبةٍ في تغيير الوُجوه التي ارتبطت بتلك الحقب، أوحتّى محاكاة للغير، وبعضُها جاء نَتيجة الهوس بالسّلطة، والرغبة في الانتقام من الخصوم المفترضين، وقد ابتدأت الشرارة –وإن كانت الوقائع تشير إلى ابتدائها قبل هذا التّاريخ- مع انقلاب عدد من ضبّاط الجيش المصري في ما عُرف بثورة (يوليو عام 1952م) بقيادة: نجيب وعبد الناصر، والذي أطلق العنان للعديد من الانقلابات العسكريّة في تونس عام 1957م، وفي العراق عام 1958م، واليمن الشّمالي عام 1962م، وفي ليبيا عام 1969م، ويُعتبر الوضع العراقي والسوري استثنائيًّا في هذا المجال؛ إذ شَهد العراق ستّة انقلابات قَبل وبعد العهد الملكي وصولًا لانقلاب حزب البعث عام 1968م، وشهدت سوريا تسعة انقلابات منذ منتصف الأربعينات ونهاية عهد الانتداب الفرنسيّ، وخُتمت بانقلاب "حافظ الأسد" عام 1970م، هذا إذا أسقطنا من حساباتنا ما يُسمّى: الانقلابات البيضاء التي يقوم بها أصحاب هذه الثورات بَعضهم على بعض، يُضاف إلى كل ذلك: الحُروب الداخليّة، والخارجيّة، والفتن، والأحداث التي لازمت تلك الدول طيلَة السبعة عقود المنصرمة!
وبكلّ تأكيد؛ كان لهذه الأوضاع غَير المُستقرة في أغلب هذه البلدان تأثيرات كبيرة ومُباشرة على الأوضاع السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والعلميّة والثقافيّة، وأبقاها مغلقة إلى حدٍّ ما، ومعزولة عمّا يجري مِن أحداث وتطورات في العالم، إلا في حدود ما تسمَح به تلك الأنظمة تبعًا للظروف والمستجدات.
لقد كَانت الخلفيّة العسكريّة والحزبيّة ذات الإطار الشموليّ والأحاديّ؛ تأثير مباشر على الهيكليّة السياسيّة لتلك الأنظمة، وقد دفعتها لاستغلال السلطة ومؤسّسات الدّولة والجيوش والدساتير المؤقتّة والدائمة والمجالس التشريعيّة، من أجل خدمة النظم وحدها، وتقنين وجودها، ودَسترة فلسفتها في الحكم، وإطالة أمد بقائها، وكانت القبضة الأمنيّة الصارمة والشديدة من أهم تلك الوسائل، والتي وُضعت لأجلها القوانين المختلفة واخترعت من أجلها ولها العديد من الوسائل المشروعة وغير المشروعة، والتي كانت تهدف في مضمونها أيضًا إلى تقليل هواجس الانقلابات المحتملة التي تعيشها تلك الأنظمة الانقلابيّة
إن استقراء الدوافع –مع صعوبة حصرها- والتي تقف وراء ذلك السعي المحموم للتشبث بالسُّلطة، والحرص عليها والدفاع عنها والاستماتة من أجلها؛ يُعطي صورة جليّة عن طبيعة الخلفيّة الفكريّة والثقافيّة المضطربة وغير المتجانسة لأغلب حكام تلك الأنظمة منذ تأسيسها، والتي لم تكن تؤهلهم لاستلام السلطة أو على الأقل الاستمرار فيها طول هذه المدة.
فبعضهم كان بالتّأكيد متأثرًا بنماذج حكم صارمة وشموليّة؛ كالنموذج الأتاتوركيّ، والستالينيّ، وبعض نماذج الحكم العسكريّ والحزبيّ الأحادي في أمريكا اللاتينيّة، وبعض الدول الاشتراكيّة التابعة أو القريبة من التوجّهات السوفيتيّة وقتئذ، وبعضهم كان يُحاكي في تصوّراته عن الحكم؛ النّظُم المَلكيّة العربيّة وأشباهها، رُغم الاختلاف الواضح بين طبيعَة النّظم الجمهوريّة والملكية، وبَعضهم كانت تقوده عُقَده المستحكمة ومزاجه المُتقلّب ومَع طول فترة الحُكم لم يجد بعضهم ما يَمنعه من أن يُصوّر لنفسه أنه امتِداد تاريخيّ طبيعيّ لأولئك الرّجال الكبار والخلفاء العظام من سلف الأمة؛ ليُضفي على نفسه وحُكمه شرعيّة من دينٍ عظيم أضاعوه وتَاريخ مشرّف لم يستوعبُوه وهذا ما رَأيناه في شَخصي صدّام حسين ومعمّر القذّافي على سبيل المثال!
وعمومًا كانت نُقطة الالتقاء في تلك التوجّهات هي في ترسيخ فكرة إن القبضة الحديديّة للقائد الثوريّ وسيلة فاعلة وأساسيّة لاستقرار النّظام السياسيّ وبالتَّالي استقرار البلدان مع أنها فكرة قديمَة وغير واقعيّة وغير منسجمة مع طبيعة الحياة وطبيعة الإنسان نفسه.
إن أغلب هذه النظم الثوريّة العربيّة برّرت لنفسها وبشكل مُتعمّد خنق الحريّات العامّة والتفريط بكرامة الإنسان وأرادت له أن يكون تابعًا ذليلاً وصاغرًا لها ومنفّذًا لأوامرها وإراداتها وتوجهاتها ومتحمّلا لتبعات قراراتها ومغامراتها.
إن أكثرها لم يكن يحمل فكرًا ممنهجًا وواقعيًّا لإدارة الدول والتعامل مع الأزمات، أو التكيّف مع الواقع والتصدي بفاعلية مؤثرة لمُشكلات الإنسان المتجددة؛ لأنها ظلّت حبيسة عقلية القائد الرمز وحاشيته المقرّبة وحزبه الأوحد، ولذا بقيت تلك الأنظمة تعيش شكلاً من الانفصام عن الواقع خاصة في العقدين الأخيرين من حكمها، وذلك كله انعكس على منجزها المفترض؛ فهي لم تستطع أن تخلق منظومة مجتمعيّة محصنة بالقيم والأخلاق والعلم، أو تساهم فعليّا بالحفاظ عليها ولا هي استطاعت أن تقفز ببلدانها قفزات نوعيّة بارزة على الصعيد الاجتماعيّ، فبقيت المجتمعات أسيرة النزعات الاثنيّة والعشائريّة والقبليّة والعرقيّة والفرديّة ببعدها السلبيّ، والتي أسهمت في إضعاف التوجهات الدينية والوطنيّة، والتي لها بكل تأكيد تأثير كبير على السلوك الفرديّ والجمعيّ في مجتمعاتنا بغض النظر طبيعة وخصوصية كل منهما.
كما أن خلفيّتها العسكريّة والأمنيّة البحتة كانت لها نتائج وخيمة على المنظومة المجتمعيّة ككل، وعزّزت بشكل بارز حالة الانفصام بين السلطة والمجتمع، وليس الجانب الاجتماعيّ وحده، بل هناك الجانب الاقتصاديّ بما له من أهميّة كبرى تمس حياة الناس بصورة مباشرة.
وعند الحديث عن الجانب الاقتصاديّ وما يرتبط به تبرز بوضوح بعض تلك الحقائق المرتبطة بطبيعة توجهات تلك الأنظمة الشمولية ومنها:
أولا: إن معظم تلك البلدان العربيّة المحكومة بأنظمة ثورية وانقلابية لم تكن تعاني من نقص حقيقي في الموارد الطبيعية والبشريّة، وبشكل يمكن أن يعيق عمليّة التنمية مع وجود تفاوت واضح في وجودها.
ثانيًا:أن تلك الأنظمة كانت منذ بداياتها متقلّبة في تبنّيها لأيدلوجيّات اقتصاديّة واضحة فلا هي تُحسب بشكل مطلق على النموذج الاقتصاديّ الاشتراكيّ، أو النموذج الرأسماليّ مع كل مستجداته، أو النموذج الإسلاميّ مع أنه كان ولايزال الأولى بالنظر وبالأخذ والتطبيق لخصوصيّته البارزة وتميزه عن تلك النظم الوضعيّة الأخرى.
ومن الواضح أيضًا إن تلك التقلبات كان لها ما يبررّها من وجهة نظر تلك الأنظمة؛ فهي كانت على الأغلب تكتيكات مرحليّة مرتبطة بطبيعة التخندقات السياسية والتحالفات آنذاك، أكثر من كونها تعبير عن مضمون حقيقيّ يعكس الاهتمام بالمشكلة الاقتصاديّة وإدراك أهميتها وخطورتها.
إن طول فترة البقاء في الحُكم والانشغال بالأزمات الداخليّة والخارجيّة، وتقليديّة التفكير النمطي المرتبط بذهنية القائد الرمز ومن حوله هي التي أسهمت وبشكل واضح في تأخر عجلة التطور الاقتصادي والعلمي، وأعطت صورة واقعيّة عن غياب التخطيط الاقتصادي الجدّي والسليم المستند إلى برامج واضحة متدرجة تستغل كل الإمكانات والموارد البشرية والماديّة التي تزخر فيها تلك الدول وتراعي الأولويات والحاجات الملحة لأبناء المجتمع أو حتى تلك التي ترتبط بالبعد الاستراتيجي على الأمد البعيد وبشكل يواكب روح العصر والتطورات الهائلة التي تشهدها الحياة المعاصرة، ويراعي أيضًا التوازنات الإقليمية والدولية، وكان من نتائج هذا كله غياب العدالة الاجتماعية، وازدياد معدلات البطالة والتضخم، واتساع الهوة بين طبقات المجتمع خاصة بين تلك الطبقة المسحوقة، وتلك التي زاوجت المال بالسلطة، وانتشار نطاق الفساد الإداري والماليّ وتعدد أشكاله وتنوع صوره، خاصّة مع ضعف الرقابة، وغياب القضاء النزيه، وانعدام الشفافيّة، وانحسار دور الإعلام المستقل، وكان الضحية بطبيعة الحال هو المواطن العاديّ، الذي فقد وعيه -أو كاد- تحت الضغط اليومي الهائل وترسخ فيه ذلك الشعور السلبي الذي افقده الإحساس بقيمه وأهميته بالنسبة لوطنه وأمته.
وإلى أمدٍ قريب كانت مخيلة الحكام في تلك الدول تسرح بعيدًا عما يجري في بلدانهم، أو العالم المحيط بهم، ولم تنفعهم أبواقهم التي تعزف لهم ما تشتهي آذانهم فقط، واستقر بهم الحال وكأنهم يعيشون في جزر معزولة عن شعوبهم وليس في بلدان عامرة حيّة بالطاقات والإمكانات، بلدان تريد الحفاظ على هويتها الثقافية واستعادة دورها الحضاري والإنساني، بلدان متعطشة للحريّة والكرامة والعدل، بلدان تريد التعبير عن أفكارها وتطلعاتها نحو مستقبل أفضل، بلدان ترفض التبعيّة الفكريّة والسياسيّة والاقتصاديّة والخنوع، بلدان ملّت تلك الوجوه القديمة المتهالكة، والتي زاد أكثرها الطين بلّه؛ يوم تبنت التوريث وغدَا الناس يتساءلون أهي نظم جمهوريات حقيقيّة أم جمهوريّات بثوب ملكيات.
لقد مسخت تلك الأنظمة شكل الدولة يوم تجاهلت وظيفتها الحقيقيّة وغيبت المؤسسات، وعممت ذلك التصور النرجسي الغبي الذي يربط وجود وبقاء الدولة ككل ببقاء ذلك الرّأس المتهالك.
كل تلك العوامل وغيرها، أشّرت بوضوح إلى فشل تلك الأنظمة العتيقة في إدارة دفّة الحكم في بلدانها، ولم تنفع بعضها إمكاناتها المادية، أو حتى قبضتها الحديدية في درء خطر الثورات ولم تنفعهم تلك الصورة المشوهة التي ينقلها إعلامهم الممسوخ ونسو أنهم في زمن التكنولوجيا والانترنتّ والفضائيات وغيرها من وسائل الاتصال التي أسهمت بشكل فاعل في نقل الصورة الحقيقية للواقع، كما أسهمت وبشكل فاعل في تأجيج تلك الثورات ضدّهم.
وليس غريبًا أن بعض حكّام تلك الأنظمة كان لا يزال يعيش حالة من الغيبوبة شبه الكاملة عن الواقع وهو يرى موجات التسوناميّ الشعبية تطيح به، بل وتطالب القصاص منه، إن هذه الغيبوبة كان لها أثر سلبيّ في بداية الثورات يوم صوّرت للبعض منهم إن هذه الموجات البشرية العارمَة ما هي موجات عابرة يمكن السيطرة عليها وتحجيمها، وهذه ما دفعهم للتصدي لها بكل عنف وقسوة مما عجل منيتهم أو كاد.
وما دام الحديث عن الثورات العربية -ومن وجهة نظر شخصية- فإن النظام العراقيّ السابق –لو قدّر له أن يبقى- كان يُمكن أن يواجه بثورة عارمة أيضًا؛ كونه ينتمي لذات المنظومة الثوريّة الشموليّة، بغض النظر عن العوامل الديموغرافيّة والطائفيّة والعامل الخارجي، التي كانت ستتحكم بمسار الثورة، وبغضّ النظر أيضًا عن طبيعة البديل الحالي وتقييمنا له؛ لأننا في موقع توصيف تاريخي لا مقارنة!
وبعيدًا عن منطق الأسباب والمسببات، لا يسع الناظر في أحوال هذه الأمم العظيمة وهي تنتفض من سباتها العميق أن ينسى مسببّ الأسباب ومسخّر السنن الثابتة في الكون، تلك السُّنن التي لا تتبدل ولا تتحول إلى أن يرث -جلّ وعلا- الأرض ومن عليها.
إن ما يحدث اليوم في بعض البلدان العربية حريٌّ بنا أن نتدارسه ونتأمله جيّدًا وفق قانون الأسباب وقانون السنن الإلهية المطّردة؛ لأن النظرة ساعتها ستتضح، والمقاربات الزمانيّة والمكانيّة ستكون أدق وأشمل، فقد لا يكون هناك ربيع واحد هذا العام فقط، وقد لاتكون تلك النظم الثورية والانقلابية وحدها فريسة تلك الثورات الشعبية الكبيرة فالقائمة قد تطول، خاصة وأن بعض مناطقنا العربية لازالت أرضًا خصبة للاستبداد والاستعباد والجور، وإن غدًا لناظره قريب!