لا بد لي أن أسمي باريس عاصمة النور "الخافت"، فإضاءة شوارعها خافتة فعلا، وبخاصة إن كنت قادمًا من جزيرة العرب حيث الأنوار ساطعة مبهرة. وإذا كانت باريس قد شهدت يومًا نهضة فكرية وثقافية جعلتها تحمل اسم عاصمة النور، فإن وضعها في يومنا هذا يدعونا لإضافة وصف "الخافت" بعد كلمة النور. ففي النور الخافت يصبح من يريد أن يرتكب عملا مخجلا أكثر جرأة، ولا يستحي الناس من إطلاق الأكاذيب والدعاوى الباطلة، ويسود جو التآمر والسرقات والصفقات المشبوهة، وتنطلق أفكار وتظهر قوانين تخالف الدين والعقل والمنطق. فرنسا اليوم دولة أقزام وقد نحي عن قيادتها العمالقة. فنادرًا ما تجد أبناء العائلات الفرنسية الكبيرة –الذين تهمهم سمعة فرنسا ومستقبلها- في الواجهة، وأصبح تملق القوميين المتطرفين واليهود والأرمن مطية مضمونة للوصول للحكم.

وآخر ما أنتجته هذه الظروف الكئيبة قانون "إنكار المحرقة"، فقد أقرت الجمعية الوطنية الفرنسية اليوم قانونًا يُجرّم من يشكك أو ينكر محرقة اليهود والأرمن ويحكم عليه بالسجن عامًا واحدًا وبغرامة خمس وأربعين ألف يورو. أي أن الجمعية الوطنية قد أقرت حقائق تاريخية لا يمكن تحدّيها، في إجراء يذكرنا بما دأبت الكنيسة عليه من احتكار الحقيقة و"حرمان" مخالفيها في الرأي ورميهم بالهرطقة وإبعادهم وسجنهم وتعذيبهم وحرقهم أحياء. والغريب أن الثورة الفرنسية نفسها قامت لتوقف هذه الممارسات الكنسية الظالمة واللا عقلانية، فإذا بالجمعية الوطنية الفرنسية اليوم تتبنى أسوأ ممارسات الكنيسة وتجرّم الناس لمجرد مخالفتهم لها في الرأي والاعتقاد، بل وتمنع إجراء بحث تاريخي للتعرف على حقيقة مزاعم الأرمن.

أقرّوا بحدوث المذبحة، وإلا السجن والغرامة! هذا هو موقف الجمعية الوطنية الفرنسية. ولا عبرة بدعوة رئيس وزراء تركيا "رجب طيب أردوغان" للرئيس الأرمني "روبرت خوشاريان" وشعب أرمينيا في الأول من أبريل عام 2005 إلى: "تأسيس مجموعة مشتركة تتألف من المؤرخين والخبراء الآخرين من كلا البلدين (أرمينيا وتركيا) لدرساة تطورات وأحداث عام 1915 ليس فقط عبر الأرشيف العثماني والأرمني ولكن أيضًا عبر أرشيف الدول ذات العلاقة، وأن يشركوا الرأي العام الدولي فيما يتوصلون إليه".

ولا بدعوة الرئيس التركي "عبد الله كول" بعد ذلك في 28 مارس 2007 حيث قال: "إننا نتطلع بشدة إلى رد إيجابي من أرمينيا، لتوافق على تأسيس هذه اللجنة المشتركة التي نعلن قبولها المسبق لما ستتوصل إليه. وأنا هو أوسع الدعوة لتشمل أي طرف ثالث آخر بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية، للمساهمة في هذه اللجنة عبر إرسال العلماء الذين سسعملون معًا لإزالة الغموض حول هذه الأحداث المأساوية وفتح الطريق للتعاون".

إن موقف الحكومة الأرمنية الرافض للقيام بدراسة تاريخية منهجية استنادا إلى الوثائق التاريخية في تركيا وأرمينيا والبلدان الأخرى ذات الصلة كروسيا وإنجلترا واليونان، إضافة إلى قانون الجمعية الوطنية الفرنسية الأخير، لهو موقف تآمري موجه ضد تركيا والإسلام. يريدون أن يلصقوا تهمة الإبادة الجماعية بالمسلمين ويريدون تشويه صورة تركيا الدولة الفتية الناهضة اقتصاديا وثقافيا واجتماعيًّا. وكأنهم قد عز عليهم أن يروا دولة إسلامية قوية على حدود أوروبا الجنوبية.

إن دعوى الإبادة الجماعية دعوى كاذبة لا أساس لها من الصحة، فلم تكن هناك مقدمات لهذه الإبادة المزعومة حيث كان الأرمن يتمتعون بحقوقهم وحرياتهم كأي مواطن مسلم في الدولة العثمانية، ولم تكن هناك أية دعاوى تحريضية ضدهم من الحكومة أو وسائل الإعلام أو عبر منابر الخطابة. بل إن العشرات من الأرمن قد تولوا خلال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين أرفع المسؤوليات في الدولة العثمانية ومنهم (1):

سركيس أفندي: السكرتير الأول لوزير الشؤون الدولية.

ديران آلكسان بيه: السفير العثماني في بلجيكا.

يتفارت زوهراب أفندي: السفير العثماني في لندن.

هرانت دوز بيه: السفير العثماني في إيطاليا.

هوسيب ميساكيان أفندي: السفير العثماني في لاهاي.

كابرييل نورادونكيان باشا: وزير الشؤون الخارجية.

آكوب قازازيان باشا: وزير المالية.

سركسي أوهانيس باشا: سكرتير عام وزارة الشؤون الخارجية، ثم وزير المالية.

قارابيت آرتين داوود باشا: سفير في فيينا، حكم لبنان، ثم وزير الداخلية.

كريكور سنوبيان باشا: وزير للشؤون الداخلية.

أوسكان مارديكيان باشا: وزير للمواصلات.

توماس ترزيان، نيسان غوغاصيان، تاويت سركجيان: أساتذة في العلوم السياسية.

كيريور زوهراب، وبدروس حلاجيان: نواب مدينة استانبول.

وأخيرًا أورد شهادة الفيسكونت برايس في "الكتاب الأزرق" وهو التقرير الذي قدمه لوزير الدولة للشؤون الخارجية البريطاني حول "معاملة الأرمن في الإمبراطورية العثمانية خلال عامي 1915-1916 ما يلي:

"حينما وصلنا للقسطنطينية وجدنا أن الأرمن يشكلون أحد المكونات المهمة في الإمبراطورية العثمانية، ويمكن للمرء أن يراهم كمصرفيين، ومستوردين، وتجارًا مهمين، ومنظمين لمخازن تجارة الجملة، وكذلك يراهم حينما يجتاز المرء البوسفور حتى ليظن المرء أن عدد الأرمن في اللإمبراطورية مساوٍ لعدد الأتراك."(2)

-----------------------------------------

(1)   النيويورك تايمز –  23/4/2007

(2) THE TREATMENT OF THE ARMENIANS IN THE OTTOMAN EMPIRE 1915-16. Documents presented to VISCOUNT GREY OF FALLODON -Secretary of State for Foreign Affairs - By Viscount Bryce.  For Official use, Miscellaneous No. 31 (1916)

http://net.lib.byu.edu/~rdh7/wwi/1915/bryce/

 

التدقيق اللغوي لهذه المقالة: هبة البشير.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

nashiri logo clear

دار ناشري للنشر الإلكتروني.
عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

 

اشترك في القائمة البريدية