يقدّر قاموس "لاروس" لسنة 2010 عدد الأرمن بستة ملايين ونصف مليون أرمني، منهم ثلاثة ملايين في أرمينيا والباقي مهاجرون أو مهجّرون. والغريب أن هذا القاموس المحترم يقول أن سبب هجرتهم هو مذبحةُ عامِ 1915 على يد الأتراك! بينما قال بعض الأرمن على الفضائيات أن مجموع المهاجرين الأرمن في العالم هو ستة ملايين، وعزوا ذلك لظلم وتعسف الأتراك. وتقوم اليوم ضجة كبرى في فرنسا وإسرائيل لإدانة من يشكك في "المحرقة الأرمنية".
أولا أعبر بصدق ومودة عن تعاطفي مع المهاجرين الأرمن الذين انتزعوا من بلادهم أو اضطروا إلى تركها والهرب منها نجاة بأرواحهم، كما أتألم لكل مهجّر في الدنيا اضطر لترك بيته ووطنه بسبب الاضطاد كما حصل لمسلمي دولة الأندلس ومسلمي الدولة العثمانية في القوقاز والبلقان. كما يجب أن أشير ألى أن الأرمن كانوا أوفياء للبلاد التي هاجروا إليها وساهموا بإخلاص في رخائها ونهضتها.
ثم لا بد من توضيح حقيقة تناساها كل الناس وهي أن هجرات الأرمن لم تنشأ فقط بسبب ما يسمى زورًا بـ "المذبحة الأرمنية عام 1915". وفيما يلي سرد زمني لعشر هجرات أرمنية تتالت لمدة ألف سنة بسبب الكوارث الطبيعية والحروب العديدة التي شهدتها بلاد الأرمن، ووقوع هذه البلاد بين أمم عظيمة كالبيزنطيين والفرس والعرب والمغول والروس والعثمانيين.
1- دخل ألب أرسلان -سلطان فارس السلجوقي- مدينة آني عاصمة أرمينيا عام 1064 وأعمل فيها القتل والتنكيل، ثم توالى عليها أمراء الأكراد (1072-1124) ثم أمراء الكرج (1124-1127) وبعدئذ التتر والفرس. وفي عام 1320 عصفت بها هزة أرضية دمرتها بصورة تامة فهجرها سكانها إلى مولدافيا والكرج والقرم وبولونيا.
2- حصلت الهجرة الأرمنية الكبرى في عام 1375 من دولتهم في كيليكا (أو قيليقيا) بعد خرابها في حروب خاسرة مع المماليك استمرت زهاء مئة سنة ضاع فيها استقلالها ومقومات عيشها وغدت أخيرًا نيابة مملوكية، وأخذت قوافل المهاجرين تغادر أرمينيا على نطاق واسع، فمنهم من ارتحل إلى مناطق روسيا الجنوبية، ومنهم من يمم وجهه شطر ديار الغرب حيث وصل قسم كبير منهم إلى بولونيا حيث استقبلوا بترحاب وكان لهم شأن كبير، وقد استوطنوا في مدن "لامبرغ" و"كامندس بودولسك" و"بوكوفينيا".
3- اضطر عباس إمبراطور الفرس إلى الانسحاب من أذربيجان وأرمينيا وآرارات أمام ضغط جيوش الخليفة العثماني أحمد الأول عام 1617، وعند انسحابه أمر عباس إمبراطور الفرس بإجلاء السكان الأرمن عن أرمينيا ونقلهم إلى بلاد فارس. ونفذ هذا الأمر بوحشية لا مثيل لها، سيرًا على الأقدام في قوافل طويلة لا نهاية لها عبر أذربيجان وكردستان باتجاه أصفهان العاصمة الفارسية وبنى لهم مدينة جولفا بجوار أصفهان، حيث لا يزال يقطنها طائفة من الأرمن حتى اليوم.
4- بين عامي 1797 و1829 جرت حربان ضروسان بين الفرس والروس فوق أراضي القوقاز وأرمينيا، تم في نهايتها تسليم الأتراك الأراضي الأرمنية بموجب معاهدة "أدرنة". ونتيجة لذلك كله اضطر عدد كبير من الأرمن المقيمين في فارس وتركيا للهجرة نحو روسيا. وقد تعرضوا أثناء هجرتهم لأخطار جسيمة، هلك فيها أكثر من النصف بسبب المجاعة والأوبئة. وكان عدد الذين هاجروا من فارس يناهز الأربعين ألفًا، وعدد الذين هاجروا من تركيا يناهز التسعين ألفًا. ومع ذلك لم تظهر روسيا أي عطف على أولئك البائسين لأنها ورثت -فيما ورثته عن البيزنطيين- كراهتهم للأرمن.
5- في 18.5.1915 دخل الروس والفدائيون الأرمن مدينة "وان" أو "فان" Van التركية كما أغاروا على القرى المجاورة، وفجأة انسحب الروس وتركوا الأرمن وحيدين في الساحة، مما جعل الأرمن يضطرون للفرار إلى المناطق الروسية خوفًا من بطش الأتراك وانتقامهم. ثم قامت القوات العثمانية بتهجير كل الأرمن قسرًا إلى الموصل وحلب ودير الزور وغيرها في ظروف من المجاعة والأوبئة التي كانت تعصف بالمنطقة. إضافة إلى تعرض قوافل المهجّرين الأرمن لغارات قبائل الأكراد والشركس التي كانت ترد على المذابح الأرمنية. وبينما يقول الأرمن أن مليونًا ونصف المليون أرمني قد قتلوا أو هجروا يقول الأتراك أن المحرقة التهمت المسلمين الأكراد والأتراك بنفس الشراهة، فقد انخفض عدد السكان المسلمين بنسبة 62% في مقاطعة "فان" و 42% في "بِتلِس" و31% في "أرضروم". ونيجة لهذه الأحداث خسر الأرمن وجودهم كجالية إثنية منظمة.
6- في نيسان –أبريل- عام 1918 سقطت الحكومة الأرمنية التي أنشأها الروس في طرابزون وأرزنجان بعد انسحاب الروس وترك الأرمن وحدهم في المعركة، كما تنازلت روسيا للدولة العثمانية في معاهدة "بريست ليتوفيسك" عن كل ولايات الأرمن بما فيها التي كانت واقعة تحت حكم روسيا من وقت طويل وهي "باطوم" و"قارص" و"أردهان". فهجرالأرمن طرابزون وأرزنجان واضطروا إلى الاكتفاء بجزء صغير من وطنهم يضم منطقتي "يريفان" و"سيوان".
7- بعد انهزام تركيا وألمانيا نهائيا وقع الطرفان على اتفاقية الهدنة في 30.10.1918 وعلى إثرها تبدل الموقف تماما في بلاد القوقاز، فالأتراك والأرمن (معًا) أكرهوا على مغادرة بلاد الكرج وباطوم وأرمينيا الروسية وأذربيجان.
8- في 12.2.1920 وقّعت حكومة يريفان معاهدة صلح في مدينة "الكسندروبول" تنازلت بموجبها لتركيا عن بعض المناطق الأرمنية، مما جعل الأراضي الأرمنية تتقلص إلى النصف أو أكثر بقليل. وبعد أربعة أيام اجتاحت روسيا الشيوعية الأراضي الأرمنية وقضت على استقلالها نهائيا.
9- بعد الحرب العالمية الأولى شجعت فرنسا الأرمن على الإقامة في كيليكيا، وأخذت على عاتقها حمايتهم إلى أن بلغ عددهم ربع مليون (وهذا يوضح أن العثمانيين لم يطردوا كل الأرمن عام 1915 أي لم يكن هناط تطهير عرقي للأرمن في تركيا). لكن فرنسا تخلت عن الأرمن في شهر شباط فبراير من عام 1920، مما اضطرهم للنزوح عنها في هجرة جماعية نحو سورية وغيرها من البلدان.
10- وقد تكرر الأمر نفسه حين اقتطعت فرنسا جزءا من سوريا هو لواء الإسكندرون وسلمته للأتراك في 28.6.1939 لضمان حيادهم في الحرب العالمية الثانية، وقد أحدثت مأساة الإسكندرونة هجرة جديدة في أوساط السكان غير الأتراك، كان من جرائها أن تدفقت قوافل المهاجرين من عرب وأرمن على سوريا ولبنان. و هذه ثاني مرة يذهب فيها الأرمن ضحية لفرنسا ومشاريعها الاستعمارية.
كل هذا يدعو للبحث في أحداث عام 1915 وما سمي بـ"المذبحة الأرمنية" أو "المحرقة الأرمنية" أو "هولوكست الأرمن" إذ أننا نستمع إلى اليوم لمزاعم أحد الطرفين فقط ولم نقم بالتحقيق التاريخي والنظر في أقوال الطرف الآخر والأطراف المحايدة ذات الصلة . فليس للقاصي أني حكم لمن ادعى بأن فلانًا قد اقتلع عينه، قبل أن نستدعي المتهم ويسمع دفاعه، فربما يتبين لنا أن الشاكي قد اقتلع عيني المتهم الاثنتين.
التدقيق اللغوي لهذه المقالة: هبة البشير.