إن المتابع للأحداث في مصر ؛ ولتصريحات وتحليلات الشخصيات السياسية والإعلامية والمثقفين المحسوبين على التيار الليبرالي فيها؛ يصاب بصدمة وهو يجد البون الشاسع بين أصوات المناضلين عن الحرية ومثاليات الديمقراطية من تداول سلمي على السلطة؛ ودورية الانتخابات ونزاهتها وحياد القضاء والفصل بين السلطات وبين مواقفهم على الواقع عندما يوضع على المحك.
من المعروف أن معظم التيارات المعارضة والشخصيات البارزة قد دعمت احتجاجات 30 يونيو؛ باعتبارها موجة مكملة لثورة 25 يناير؛ والتي تمحورت حول سحب الثقة من قيادة سياسية منتخبة وهي شخصية رئيس الجمهورية محمد مرسي، والتاريخ الحديث يزخر بأحداث مماثلة، ومن المعروف أن المبادر لهذه الاحتجاجات هي حركة تمرّد الشبابية التي عملت على جمع توقيعات من مختلف أنحاء ومحافظات الجمهورية وحظيت دعوتها بقبول واهتمام شعبي وإعلامي.
حتى الآن؛ لا يوجد ما يثير الريبة أو الجدل، فالنزول إلى الشارع والتظاهر وسحب الثقة من الحكومات من قِبَل الشعب - باعتباره مصدر السلطة والشرعية - أمر لا يثير الخلاف بين اثنين، لكن اتخذت الأمور بعد ذلك منحى مختلف؛ تمثَّل في تدخل المؤسسة العسكرية لتحسم الصراع بعزل الرئيس ولتغلق فضائيات الإخوان وفضائيات اعتبرتها مناوئة لإرادة الشعب ولتضع خارطة طريق للخروج من الأزمة؛ وقامت أيضًا بتعليق العمل بالدستور وتعيين رئيس مؤقت .
كيف ردّ المثقفون والناشطون المحسوبون على الاتجاه الليبرالي؟ رحبوا أغلبهم بتدخل الجيش واعتبروه انتصارًا لثورة الشعب وجارى هذا الاتجاه كل القنوات الفضائية الخاصة المحسوبة على التيار المدني، حتى أن أحد المحللين الأمريكيين كتب في واشنطن بوست (منشورًا) بعنوان "ماذا حدث للشباب الليبراليين؟"؛ رصد فيه مواقف بعض القيادات الشابة التي تصدرت ثورة 25 يناير بقيم ثم انقلبت عليها الآن بدعم مطلق لتدخل الجيش؛مما يجدر بالذكر أن الشخصية الوحيدة تقريبًا الرافضة لتدخل الجيش تمثلت في "أيمن نور".
بالطبع كان من الصعب تصنيف تدخل الجيش في ذاك الوقت؛ هل هو انقلاب عسكري أم لا؟ لكن الأمر الذي لا لبس فيه هو تدخل مؤسسة غير منتخبة تملك القدرة على الردع والضبط واستعمال العنف المنظم في صراع سياسي لحساب طرف على آخر بما يغير ميزان القوى؛ لعزل رئيس منتخب وتعطيل العمل بالدستور .
التدخل هنا يفتقد للأساس الدستوري والأخلاقي من وجهة نظر الديمقراطيين المثاليين والليبراليين المخلصين؛ لكن الشخصيات السياسية والمدنية التي كانت تنادي بهذه المبادئ سابقًا؛ هللت جميعها للتدخل العسكري دون شروط، والملاحظ أن هذه الردة ليست أمرًا جديدًا على الشخصيات السياسية العربية؛ فهذا ما حدث تمامًا عندما دعت قيادات الأحزاب السياسية العلمانية بضرورة تدخل الجيش لوقف المسار الانتخابي في الجزائر في بداية التسعينيات من القرن الماضي؛ لتلقف الكارثة التي يمكن أن تحدث إذا وصلت هذه "القوى الظلامية" للحكم حسب تعبيرها آنذاك.
هذا الموقف يُفقد هذه القوى والشخصيات مصداقيتها السياسية، فالقراءة البسيطة لتاريخ أمريكا اللاتينية وأفريقيا يظهر أن التدخل العسكري في الشؤون السياسية لم يعد إلا بالخراب على هذه البلدان، ولا عجب بأن بعض المحللين السياسيين يعتبره نوع من الفساد السياسي، فما الذي تعرفه النخب المصرية والقيادات الشابة وغاب عن بقية العالم حتى تمنح الجيش المصري صكًّا على بياض وتعتبره استثناء من التاريخ الدموي الشائن لتدخل العسكر في السياسة، إنهم مطالبون بتقديم إجابة لضميرهم وللتاريخ الذي سجل مواقفهم.
التدقيق اللغوي: ريم المطيري