شاهد الناس كثيرًا مسلسل الزير سالم أبي ليلى المهلهل، وما تزال بعض القنوات الفضائية تعرضه بين حين وآخر، ذاك المسلسل الذي قام بتمثيله ممثلون سوريون بارعون. وعلى الرغم من أنّ القصة التي يعرض لها المسلسل شعبية معروفة في أوساط المثقفين والعامة، غير أن عرضها منذ الانتفاضة الفلسطينية الثانية وحتى زمن الثورات العربية يحمل في طياته دلالات كثيرة وعبر نستلهمها في الصراع العربي مع إسرائيل، وصراعنا مع أنفسنا من وجهة أخرى .
إنّ قصة الزير سالم ليست أسطورة من محض الخيال، وضعتْ من أجل التسلية؛ بل هي قصة حقيقية تحدّث عنها المؤرخون، وثبتت أشعارها في كتب الأدب، وفي الشواهد النحوية التي اعتمد عليها نحاة العصر العباسي. لكن أصاب القصة ما أصاب قصة عنترة بن شداد ، وأبي زيد الهلالي /pa، وقصص الشعراء العذريين من الزيادة والتحريف والخلط والتكرار، أما الزير سالم فهو عدي بن ربيعة من قبيلة تغلب بن وائل بن قاسط من ولد ربيعة بن نزار بن معدّ بن عدنان، وهو أخو الفارس المغوار وائل بن ربيعة الملقب بكليب الذي قتله جساس بن مرة بن ذهل من بكر بن وائل بن قاسط من ولد ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان. ولُقّب بالزير؛ لكثرة مجالسته النساء، ولُقّب بالمُهَلهِل؛ لأنه أول من أرقّ الشعر وقصّده في بكاء أخيه كليب، وكان الشعر قبله مقطوعات قصيرة وأبيات، فلما قُتل كليب رثاه أخوه الزير بقصائد طويلة حزينة رائعة منها التي مطلعها :
أهاجَ قذاءَ عيني الادّكارُهدوءاً فالدموع لها انحدارُ
دعوْتُك يا كليبُ فلمْ تجبنيوكيف يجيبني البلدُ القِفارُ
أجبني يا كليبُ ـ خلاك ذمٌّ ـ فقد فُجِعـــــــتْ بفارسها نزارُ
خذْ العهدَ الأكيدَ عليّ عمريبتركي كلّ ما حوت الديارُ
وهجري الغانياتِ وشربَ كأسٍ ولبســـــــي جبّةً لا تُستعارُ
ولستُ بخالع درعي وسيفيإلى أنْ يخلعَ الليلَ النهارُ
(ينظر: ديوان المهلهل ص 31 شرح وتقديم طلال حرب، الدار العالمية د. ت)
وقد اعتمد الذين كتبوا المسلسل على الحكاية الشعبية وعلى ما ورد في كتب القدماء ككتاب الأغاني للأصفهاني، وطبقات فحول الشعراء لابن سلام الجمحي، والكامل في التاريخ لابن الأثير، والعقد الفريد لابن عبد ربه، وأيام العرب في الجاهلية وهو كتاب حديث اعتمد فيه مؤلفوه على كتب القدماء السابقة .
وموضوع القصة يدور حول حرب البسوس التي أظهرت بطولة الزير سالم وأسفرت عن حرب طاحنة بين قبيلتي بكر وتغلب، ودامت الحرب قرابة أربعين عامًا على عادة العرب حين يكون السبب الثأر للدم والكرامة كما حصل في حرب داحس والغبراء التي حدثت بين عبس وذبيان بعد حرب البسوس بزمن قليل.
ولا أريد الوقوف على أحداث القصة بالتفصيل فقد شاهدها الملايين من العرب والمسلمين على مدار سنوات في أرجاء الدنيا، وكان عرض المسلسل موفقًا إلى حدّ كبير، لكني هدفت من مقالتي هذه إلى الوقوف على بعض أخلاق العرب في ذلك العصر البعيد الموصوف بالجاهلية، لأقارن بين أخلاق ذاك الزمان وأخلاقنا نحن في عصرنا هذا عصر التقدم والعلم.
لقد عاش العرب قبل الإسلام حياة تقوم على الانتماء للقبيلة والعشيرة، وكانت هناك أفكار ومبادئ تؤمن بها القبيلة وتدافع عنها بقوة وعزم؛ منها طاعة شيخ القبيلة وتنفيذ أوامره، ثم حماية الجار، والوفاء بالعهد، وإكرام الضيف، والحفاظ على الكرامة والشرف، والتحلي بالشجاعة والصدق، والدفاع عن القبيلة سواء أكانت ظالمة أم مظلومة، والأخذ بالثأر. وحين جاء الإسلام عزّز بعض المفاهيم الحسنة التي تتفق وتعاليمه، وحارب المفاهيم التي تتعارض مع شرعه وأخلاقه كالتعصب القبلي والأخذ بالثأر ..
لقد جاءت أحداث قصة الزير لتتلاءم مع الجو الجاهلي السائد في ذلك العصر، فرأينا تعصب الأبناء لقبيلتهم في بكر وتغلب على الرغم مما بينهم من قربى ومصاهرة، ورأينا عادة الثأر على أشدّها بين القبيلتين بعد مقتل وائل بن ربيعة الملقب بكليب غدراً على يد جساس بن مرة، ولكن هناك أمور شاهدناها وهي بحاجة إلى وقفة طويلة من التأمل والدراسة فهي تفيدنا في قراءة واقعنا الصعب هذه الأيام.
من هذه الأمور ضرورة ردّ الظالم المتجبر والعمل على إصلاحه بالقول أو بالفعل حفاظًا على العدل العزة والكرامة والشرف، وقد تمثل ذلك بوحدة قبيلتي بكر وتغلب حين أراد الملك اليمني حسّان تبّع أن يتزوج من الجليلة بنت مرة أخت جساس وهي التي أحبها كليب واختارها زوجة له بعد ذلك. فعملت القبيلتان على إعداد خطة لقتل الملك ومحاربة جيشه والانتصار لكبرياء القبائل، علمًا أن المصادر التاريخية تجعل السبب السافر لحرب القبائل مع اليمنيين هو مقتل لبيد بن عنبسة عامل الملك اليمني على يد كليب بن ربيعة، حين طلب لبيد من كليب أن يجمع الإتاوة المفروضة على القبائل العربية، فرفض كليب؛ لأن القبائل كانت تعاني من قحط ومجاعة في تلك الأيام. وعرفت تلك المعركة بيوم خَزاز أو خَزازى وهو موضع جبل كان يوقد عليه نار عند الغارة (ينظر لسان العرب لابن منظور).
ومن هذه الأمور أيضًا محاربة القاتل ومن يقف معه وعدم مصالحته كما حصل مع الزير ومعه التغلبيون حين سعوا للثأر لكليب الذي قتله جساس بسبب ناقة. لكنّ طلب الثأر شيء والإسراف في القتل شيء آخر؛ فالزير ومعه التغلبيون تجاوزوا حدود العقل والمنطق العربي في طلبهم للثأر، حين طلبوا المستحيل وهو عودة كليب حيًّا كما ورد على لسان ابنة كليب اليمامة، ولعل ذلك أعجب الزير فنظمه شعرًا فقال:
نرفضُ الصلحَ أو تردّوا كليباأو نذيقَ الرجال قهرًا وذلّا
نرفضُ الصلح أو تردّوا كليبًاأو نبيدَ الحيينِ بكرًا وذُهلا (ديوان المهلهل ص60)
نعم، محاربة الظالم واجبة، والقصاص من الحدود التي بينها الدين الإسلامي، لكن مجاوزة الحد بالإسراف وسفك الدماء لا يرضاه عاقل، وهذه سمة من سمات الجاهلية أنهم كانوا يقتلون أي شخص من قبيلة القاتل أو المطلوب للثأر. فالدفاع عن الكرامة والكبرياء شيء جميل، لكنّ الفتنة واقتتال الناس على الصغائر وتدمير بنية القبائل أشد وبالًا على المجتمع وأكثر سوادًا من بياض البحث عن الكبرياء بداعي الثأر.
ومن الأمور التي نستلهمها من القصة عدم الاستعانة بالأعداء لحل مشاكلنا الداخلية، فقد كان بوسع بكر التي ذاقت الهزائم المتكررة على يد الزير والتغلبيين أن تطلب النجدة من أعداء العرب الروم أو الفرس، غير أنهم لم يفعلوا، وصبروا على القتال أربعين عامًا ولم يدخلوا أجنبيًّا لحسم المعركة.
ومن الأمور التي تثير المشاهد والقارئ ـ أيضًا ـ رفض الذلّ والتبعية مقابل حماية العرش والعيش الآمن، وتجلى ذلك بعد عودة الزير عجوزًا إلى قصر ابن أخيه الجرو (الهجرس) ورؤيته ما آلت أمور القبيلة بعد غيبته عنهم وخضوعهم للبكريين، وبيعهم لخيولهم وسلاحهم مقابل الحماية ونشر الأمان. وقد نظم الزير في هذا شعرًا فقال :
عجبتْ أبناؤنا من فعلناإذ نبيع الخيل بالمعزى اللِّجاب
علموا أنّ لدينا عقبـــــةًغير ما قال صعيرُ بن كلابِ
إنما كانتْ بنا موصولةًأكْلُ الناس بها أحرى النّهابِ (ديوان المهلهل ص 23)
في قصة الزير سالم أو مسلسله ما يكشف عن عمق المأساة التي يعانيها المواطن العربي عمومًا والفلسطيني بخاصة، فقد سلبت أرض فلسطين، ونُهبت خيرات الأمة، ودُنست المقدسات، وجرحت الكرامة والعزة والكبرياء، فإذا كان الزير والتغلبيون قاتلوا أربعين عامًا أقرب القبائل عليهم ثأرًا لمقتل ملكهم كليب، فكم يحتاج العرب والمسملون للثأر لبيت المقدس ولدماء المسلمين من عهد الاستعمار وما تلا ذلك من ضياع الأرض وسفك لدماء المسلمين في فلسطين ولبنان والعراق وأفغانستان ... وهل كان التغلبيون يقدرون قيمة الإنسان أكثر ما يقدّره العرب والمسلمون اليوم ؟
وهل كان الزير يستمدّ شجاعته من لقبه الذي يُشْعره بالضعف والهشاشة كما يرى بعض الكتّاب؟ ومتى كان اللقب عارًا يحاول الإنسان غسله وإثبات عكسه؟ ولماذا لم يفعل المتنبي الشاعر الكبير ذلك حين اتهم زورًا بادعاء النبوة، فلم يجعل من نفسه شيخًا من شيوخ الإسلامفبقي ابن طبيعته وفطرته ونشأته مدافعًا عنها حتى قتل .
وهل نحن بحاجة لمهلهل جديد يمحو عنا آثار الخنوع والهزيمة ويثأر لجحافل الشهداء، أو لكليب فيوحد القبائل العربية التي عادت شعوبًا متفرقة لا يجمعها سوى هذا اللسان ؟ وقد يقول قائل: لماذا لا نحتاج للصحابة الكرام وأبطال الإسلام بدل أولئك الجاهليين كعمر بن الخطاب وخالد وصلاح الدين ...؟ فنقول: إن هؤلاء نهجهم واضح وسيرتهم ناصعة، لكننا لم نُرِدهم قدوة لنا، فوجودهم في تاريخنا لا يستفزّ أحدًا، ونحن براء من سيرتهم، ونحن أقرب إلى الجاهلية منا إلى الإسلام، غير أن في الجاهلية ما هو أجلّ وأسمى مما نعايشه في زماننا هذا من المذلة وضياع الكرامة، والتفكك والضعف وسيطرة الأعداء على خيراتنا ومواردنا.
نحن بحاجة إلى أن نقرأ التاريخ ونعي تراثنا وحضارتنا وعيًا سليمًا، ونستلهم ما فيه من عبر وعظات، كي لا يأتي على أجيالنا زمن تعيش فيه دون حضارة أو تراث؛ إذ إن تراكمات التطور التكنولوجي التي نعايشها قد جعلت كثيرًا من شبابنا مفتونًا بحضارة الغرب ووسائل عيشه، ومنسلخًا عن تراثه وواقعه، مشدوهًا لكل جديديصدر عن الغرب، ويصمّ أذنيه عن مأساة وطنه وأمته، ويحيد طرْفه عن تاريخه وهويته.
وكأنه يقول كما قال الشنفرى:
أقيموا بني أمي صدور مطيّكمفإني إلى قومٍ سواكم لأميَلُ
تدقيق:خيرية الألمعي