هل قتل السلطان العثماني مراد الرابع عام 1638 البطريرك اليوناني كيريللس الثالث؟
السلطان مراد الرابع
عكفت على سيرة بطريرك الروم الأرثوذكس في القسطنطينية "سيريلو لوكاريس"Cirilo Lúcaris ) "1572-1638) والذي سمي فيما بعد "كيريللُس الثالث"، باعتباره كاتب تاسع ترجمة لاتينية لمعاني القرآن الكريم(1). وكان غرضي أن اختصرها في أربعة أسطر كتعريف بصاحب الترجمة. لكني وجدت في النهاية اتهامًا للسلطان العثماني مراد الرابع بقتله، دون أي مقدمات تبرر ذلك، وكانت الأدلة الظرفية تشير إلى جهة أخرى، فاضطررت لإعادة القراءة والتدقيق فيها لأتبيّن صحة هذا الخبر.
تسرد موسوعة "ويكيبديا Wikipedia" الرقمية سيرة البابا كيريللس الثالث على النحو التالي: ولد "سيريلو لوكاريس" في جزيرة كريت باسم "قسطنطين لوكاريس Constantine Loucaris" عام 1572. وقد تجول في شبابه في أوربا ودرس في جامعة "بادوا Padua" في فينسيا، ثم في جنيف وفوتمبرغ Wutemberg، حيث تأثر بأفكار "جون كالفن John Calvin" المتعلقة بإصلاح الإيمان، وصار يكره المذهب الأرثوذكسي. وفي عام 1596 أُرسل إلى بولندا في مهمة كنسية، وعمل لمدة ست سنوات مدرسًا للأرثوذكسية في "فيلينوس Vilinius" الواقعة في ليتوانيا اليوم. وعند عودته كان أول عمل له هو تأسيس إكليريكية آثونيادا Athoniada اللاهوتية في جبل آثوس .ورعى ترجمة "مكسيموس غاليبولي Maximos of Gallipoli" لإنتاج أول ترجمة للعهد الجديد باللغة اليونانية الحديثة. وقد صار بطريركًا يونانيًا للإسكندرية باسم: "كيرلس الثالث" من 1601-1620، ثم صار بطريركًا للقسطنطينية عام 1620 وحتى مقتله عام 1638.
سيرلو لوكاريس أو البابا اليوناني كيرللس الثالث
وحيث أن هدفه في نهاية المطاف كان إصلاح الكنيسة الأرثوذكسية على النمط الكالفيني والبروتستانتي، فقد سعى لغايته ببعث العديد من اللاهوتيين اليونانيين الشباب إلى جامعات سويسرا وشمال هولندا وانكلترا. وفي عام 1629 نشر كتابه الشهير "المذهب الكالفيني"، وقد طبع في نفس العام في طبعتين لاتينيتين، وأربع طبعات فرنسية وطبعة واحدة بكل من اللغتين الألمانية والإنجليزية. وقد أثار هذا الكتاب جدلًا واسعًا في الكنيسة الشرقية، وانتقادات في العديد من المجامع الكنسية، في مجمع القسطنطينية عام 1638، وفي مجمع "جاسي Jassy" عام1642، وبلغت ذروتها في عام 1672 مع دعوة "دوسيثيوس Dositheos"، بطريرك القدس لسينودس القدس والذي أدان المذاهب الكالفيني، وبقيت أعماله ومبادراته موضع جدل بين الأرثوذكس.
وفي عام 1630 كتب ترجمته للقرآن الكريم باللاتينية، وتعتبر هذه الترجمة مراجعة لغوية لترجمة "روبرت كيتون Robert Ketton"، هذه المراجعة التي لطالما حاولها الكثيرون أن يقوموا بها، لكن الكنيسة تصدت لهم ولم تسمح بذلك إلا في بداية القرن السابع عشر. لكن ترجمة سيريليو لوكاريس تبقى مع ذلك ترجمة جزئية للقرآن، إذ تضمنت ترجمة السور الثلاثين الأولى من القرآن الكريم (من سورة الفاتحة حتى سورة الروم)، والسور الأحد عشر الأخيرة منه (منسورة التحريم حتى سورة الناس)، وبقيت هذه الترجمة مخطوطة ولم تطبع أبدًا. وتوجد منها نسخة مخطوطة في المكتبة المركزية بزيوريخ، إلى أن حقق هذه الترجمة "أورسكار دي لا كروث بالما" وأصدرها في كتاب عام 2006 ، وهذا كتاب آخر متعلق بالدراسات القرآنية يحتاج للترجمة إلى اللغة العربية. وهناك دراسة حديثة عن "كلمة الدين ومآلها في الترجمات اللاتينية" قام بها باحثون ألمان تدخل هذه الترجمة ضمن دراستها.
وقد كان سيريلو لوكاريس على علاقة طيبة بأسقف كانتربري وبالكنيسة الإنجليزية، وكان بينهما مراسلات كثيرة. كما يذكر أنه كان مهتمًا بجمع الكتب والمخطوطات.
تحقيق "أوسكار ديلاكروث بالما" لترجمة "سيريلو لوكاريس" اللاتينية للقرآن الكريم والمنشور عام 2006
مقتل سيريلو لوكاريس: وفي 27 يونيو/حزيران 1638 عثر على جثة البطريرك سيريلو لوكاريس في البحر، ويذكر موقع ويكيبيديا في دراسته المطولة لسيرته والتي تقع في 1500 كلمة أن السلطان العثماني مراد الرابع حينما كان على وشك الخروج لحرب الفرس، وتجنبًا للمتاعب أثناء غيابه، وخوفًا من استثارة البطريرط للقوزاق، فقد أمر الانكشارية بخنقه على متن سفينة في مضيق البوسفور وألقاء جثته في البحر(2).
على أني أستبعد هذه الرواية التي تعزو موته لأسباب سياسية لخمسة أسباب:
الأول: أن الدافع القوي الظاهر هو كراهية القتيل للمذهب الأرثوذكسي الذي يترأس كنيسته منذ أن كان طالبًا في جنيف، ثم سعيه لإصلاح هذا المذهب على الطريقة الكالفينية، وإرساله شباب القساوسة اليونانيين ليدرسوه في أوربا، وأخيرًا تجرؤه عام 1629 على نشر كتاب يبشر به. وقد أثارت دعوته الجدل وعارضها الكثيرون، فيغلب على الظن هنا تواطؤ القساوسة الأرثوذكس على قتله تخلصًا من نفوذه الذي قد يقود لتبني أفكاره.
والثاني: أن قتل المجددين في الدين، وأصحاب الأفكار والدعوات التي لا تروق للكنيسة والذين تسميهم الكنيسة "هراطقة" كان عادة أرثوذكسية أصيلة. فقد قتل الأرثوذكس البطريرك المشهور "آريوس" بالسم في القسطنطينية عام 336م، وقتلوا البطريرك "جورجيوس الكبادوكي" عام 361م في وضح النهار في الإسكندرية وقطعوا جثته بالسواطير، ونفوا البطريرك "نسطور" إلى الصحراء المصرية عام 449م حيث مات مغمورًا، كما لم يعلم شيء عن مصير أسقف أنطاكية "بولس السميساطي" من قبل. كما قتلوا أيضًا الأسقف "بروتيرويوس" في الإسكندرية عام 451م لأسباب كنسية، وقتل الإسكندرانيون اسقفًا آخر أرسلته العاصمة الامبراطورية (القسطنطينية) هو "بولس" عام 460، وأوشكوا أن يفتكوا بالأسقف التالي "دالميوس" لولا أنه فر من الإسكندرية(3). وحين جاء الإسلام التفت الكنيسة لمحاربته وتوقفت الدعوات الإصلاحية، فلما تجرأ سيريللو لوكاريس على محاولة الإصلاح الديني لقي مصير من قبله.
والثالث: تباكت الكنيسة الأرثوذكسية على سيريلو لوكاريس وألقت تهمة قتله سرًا على أكبر أعداء المسيحية السلطان مراد الرابع، واعتبرت القتيل شهيدًا بعد فترة قصيرة من موته لامتصاص غضب القساوسة الموالين له والمقتنعين بأفكاره، وخوفًا من المحاسبة القانونية لأنهم كانوا يعيشون في ظل السلطان العثماني. لكن الكذبة لم تستمر طويلًا إذ سرعان ما لعنوه في المجمّع الكنسي الذي عقد في نفس سنة مقتله. وما زال هذا الرجل موضع في الكنيسة الأرثوذكسية حتى اليوم.
والرابع: أن السلاطين العثمانيين كانوا مشهورين بحسن معاملة رجال الدين المسيحي واليهودي ولا يتدخلون في شؤونهم، حتى أن مدير المخابرات البريطانية في السلطنة العثمانية والذي كان يعمل لهدمها لم يجد وسيلة لعمله بحرية ولإبعاد الأنظار عنه سوى أن يتنكر في ثياب الأسقف البروتستانتي.
والخامس: أن المسيحيين لم يكونا يشكلون في ذلك الوقت أي تهديد على الدولة العثمانية، بل أن السلطان العثماني مراد الرابع كان خلال خلافته القصيرة في حروب مع الصفويين وصراع مع الانكشاريين.
والسادس: أن البطريرك المقتول كان يرنو بطرفه دومًا للغرب حيث يسود المذهب الكالفيني، وكان يقيم مع أساقفة الغرب وجامعاته أطيب العلاقات، ولم يذكر أنه كان على أية علاقة بالشرق حيث القوقاز الذين زعم أنه ربما يحرضّهم على غزو الدولة العثمانية. فكل الدلائل الظرفية تؤدي لاتهام الكنيسة بقتله وتبرئة السلطان من هذه التهمة التي لا أساس لها من الصحة.
المراجع:
1- وقد قام الدكتور أوسكار دي لاكروث بالما بنحقيق هذه الترجمة عام 2006 وكتابه متوفر في موقع amazon.com
2- http://en.wikipedia.org/{jcomments org/wiki/Cyrill lucaris
3- يوسف زيدان، اللاهوت العربي وإصول العنف الديني الصفحات 109، 115، 125، دار الشروق، ط9، القاهرة 2103