هذه المؤامرة الكونية على سوريا ماذا تريد؟ هذا الموقف العالمي المخزي من ثورة الشعب السوري، وعدم توفير ملاذ آمن للسوريين على أرضهم حتى اليوم، يدل على رغبة في تمزيق الشعب العربي السوري وإلغاء وجوده. فما يخيف العالم من سوريا حرة ديموقراطية؟ سأحكي قصة.
جُرِّدَ السيف الدمشقي ليلة واحدة عام 1956، فقامت الدنيا ولم تقعد. ولم يطل الأمر حتى صارت سوريا العدو الأكبر للسياسة الخارجية الأمريكية، فحضر الأسطول السادس وتمركز قبالة مياهنا الإقليمية أشهرًا عديدة، ونزل المارينز في تركيا، وتم تعزيز واستنفار القواعد البريطانية في قبرص والعراق، وحشدت تركيا الأطلسية الكمالية جنودها على طول الحدود السورية (وكنت شخصيًا شاهدًا على ذلك؛ حيث كان أبي قائدًا لكتيبة الحدود الأولى في الدرك السوري). لم يقل هؤلاء ماذا يريدون، لكنهم قالوا بأنهم يخافون أن تتحول سورية إلى الشيوعية. وافهموها كا تريدون. وفي تلك السنة كان دخل الفرد في سوريا هو الثاني في آسيا بعد اليابان.
وأروي هذه القصة نقلااً من مذكرات بطلها العقيد محمد سهيل العشي، من عائلات دمشق العريقة، وهو مشهور بأدبه، وتواضعه، وإنسانيته، وبقلبه النابض بحب بلده.وهو من ناحية خريج كلية أركان الحرب في إنكلترا، وكلية الحرب العليا في فرنسا، قائد سابق لسلاح الطيران، والمرافق العسكري السابق للرئيس شكري القوتلي، رئيس الجمهورية.
يروي سهيل العشي أنه استلم مهمته كقائد للواء الثالث مشاة المتمركز على الجبهة السورية بداية عام 1956، ووجد لواءه "رابضًا في مكانه منذ ثلاث سنوات متعاقبة، وكان انتشار قواته بكاملها على مواقع الجبهة ضد إسرائيل، وكأن هجومًا وشيكًا سيقع. مما يسيء بطبيعة الحال إلى مستوى تدريبه وإلى حالته المعنوية، لذلك ألح على القيادة بوجوب إعادة هذا اللواء إلى الخلف لإعادة جاهزيته ببرنامج مكثف من التدريب، وذلك بعد إعطائه فترة من الاستراحة".
"وبعد طول مراجعات مع القيادة العامة، وافقتْ على عودة اللواء الثالث إلى معسكرات قطنا لإعادة التأهيل، ووصل في العشر الأول من شهر أكتوبر عام 1956، حيث أعطيتُ مأذونيات استراحةٍ للجنود، وصف الضباط، وبعض الضباط. وبدأتُ أضع برامج التدريب المكثف"، لوضع اللواء في جاهزية قتالية عالية خلال عدة أشهر.
لكن هجومًا إسرائيليًا وقع على مصر في الساعة الخامسة من مساء يوم 29/10/1956، وفي صباح يوم 30/10/1956 استدعت القيادة العامة للجيش العقيد سهيل العشي، وكلفته بقيادة ما سُمِّيَ "بالجَمْهَرة السورية الأولى" المشكلة من لواء مشاة، ولواء مدرعات، وفوج مدفعية، وفوج هندسة عسكرية. وكلفته بمهمة هجومية ضد إسرائيل فجر يوم 31/10 على أن تبلغ القوة خط الهجوم في نابلس بالأردن عند منتصف الليل، وعلى أن تكون هذه الجمهرة تحت تصرف القيادة الأردنية. وقد حاول العقيد سهيل العشي عبثًا الحصول على لواء مشاة آخر غير ا"للواء الثالث مشاة" المحتاج للراحة وإعادة التأهيل إضافة لوجود قسم عظيم من جنوده في بيوتهم في إجازة. وأمام إصرار القيادة على هذا اللواء اشترط العقيد دفع رواتب الجنود الشهرية فورًا وقبل التحرك من المعسكر.
هل سمعتم ما قاله الرجل؟ - توقفوا فقد سمعنا عجبًا:
1- بدأ العدوان الإسرائيلي على مصر الساعة الخامسة عصرًا. فتحركت القيادة السياسية على الفور، واجتمعت، ودرست المستجدات، وحزمت أمرها واتخذت قرارها، وبلّغت أمرًا صريحًا لقيادة الجيش بشن الحرب الشاملة على إسرائيل من جبهتين بغية احتلال نصف إسرائيل الشمالي لجر الجيش الإسرائيلي بعيدًا عن الأراضي المصرية. وقامت قيادة الجيش بدراسة الموقف وإعداد الخطط تلك الليلة وتم استدعاء العقيد العشي في صباح تلك الليلة لتنفيذ الجزء الخاص به من قرار الحرب، كل ذلك خلال أربع عشرة ساعة فقط.
اهتز السيف الدمشقي في غمده.
وللقيادة السورية السياسية كل الإجلال والإعجاب. ظهرت البطولة من هؤلاء المدنيين ذوي البذلات الأنيقة.
2- ما لا يعلمه القراء أن هذا الأمر لم يكن شأنًا داخليًا سوريًا محضًا، وإنما جرى بالتنسيق مع مصر التي تجمعها مع سوريا قيادة عسكرية مشتركة أُنشئت عام 1955، ومع الأردن، التي اتُفِقَ على تشارك في الهجوم الذي سينطلق من جبال نابلس، ومع العراق الذي تعهّد بإرسال قوات دعم لمؤازرة الجيشين السوري والأردني. كل ذلك خلال هذه الساعات الأربع عشرة نفسها. وللسيف الدمشقي ظل واسع في أرض المنطقة العربية كلها، فقد تعود العرب أن قيادة كجهودهم الحربي عبر العصور.
3- أصر العقيد سهيل العشي، المكلف بقيادة الجمهرة السورية الأولى، على استبدال لوائه المتعب والمفتقد للتدريب، فما استُجيب له، فقد أُخفيَ عنه أن الجيش السوري بأسره سيشترك في الهجوم بكل قواته على اختلاف جاهزيتها. إن إحساس القائد بالحالة البدنية والنفسية والقتالية لجنوده هي مفتاح سيطرته الفعال على قطعته العسكرية وشرط لازم لحسن تقديره، ودقة قراراته، وجودة أداء هذه القوات لمهامها.
4- فلما رأى إصرار القيادة العامة للجيش على استخدام هذا اللواء نفسه في الحرب، طلب دفع الراتب الشهري فورًا لجنوده وقبل التحرك للأردن. ذلك أن الرواتب في سوريا تدفع سلفًا في بداية الشهر لكل موظفي الدولة المدنيين والعسكريين، ونحن في الثلاثين من الشهر. فإذا غادر الجنود اليوم وقبضوا رواتبهم غدًا، فما فائدتها لجندي في بلد غريب، ترك أهله للجوع والفاقة؟ وهل يملك أحد منهم قرشًا في نهاية الشهر ليتركه لأهله؟ أيسير العسكري للقتال ويترك أسرته بلا مال ويبقى ذهنه مشغولاً عندها طول الوقت؟ هكذا أعاد سهيل العشي سيرة قادة الفتح الإسلامي، يوم كان العسكر إخوة للأمير ومساوين له في الكرامة، هكذا وضع السيف الدمشقي في يد رجل أعاد سيرة قادة الفتح ،وسار على نهجهم.
من حالة السلم إلى الهجوم الاستراتيجي العام في ثلاثين ساعة
ويكمل العقيد سهيل العشي قصته عما فعله بعد تلقيه الأمر من القيادة العامة للجيش السوري، فيقول:
"واستعملت كل الوسائل لإعلام العسكريين المأذونين بالالتحاق بالسرعة القصوى"، "وأصبحت مكاتب أركان اللواء في قطنا ورشة عمل دائم سواء للعمل داخل اللواء أو للاتصال بمختلف الوحدات المنضمة للجمهرة"، "وقد حضر جميع عسكريي اللواء، وقبضوا رواتبهم، وتأهبوا للمسير، وأخبروا أسرهم بالمجيء إلى ثكنات قطنا لقبض رواتبهم"، "وأصدرت أوامري بالتحرك الساعة الثالثة عصرًا".
"وكانت دهشتي وإعجابي كبيرين عندما وقفت أمام باب الثكنة أرقب مغادرة الوحدات المقاتلة، وقد تجمعت عائلات العسكريين على طرفي الطريق مع إشارات الوداع وتمنيات التوفيق دون أن تدمع عين أو يرتفع صوت بغير تمنيات النصر".
لم تكن نساءٌ فقيراتٌ واقفاتٍ على باب معسكرات قطنا بل كانت أخوات الخنساء هناك واقفات.
الظروف السيئة ليست عذرًا لعدم تنفيذ الأوامر:
تراكم عدد من الظروف السيئة المتعلقة باللواء الثالث مشاة لكنها جميعًا لم تمنع اللواء من بلوغ هدفه في الوقت المحدد:
- كان اللواء في حالة استنفار ومواجهة مع العدو لمدة ثلاث سنوات طويلة أي أنه متعب ولم يتلق تدريبًا طيلة هذه المدة.
- معظم جنود اللواء في إجازة بعد ثلاث سنوات من الاستنفار، ويفتقر اللواء لوسائط التبليغ والإعلام الحديثة المتوفرة اليوم.
- كما يفتقر لوسائط المواصلات والنقل القادرة على نقله مع عتاده ومستلزماته وذخيرته من ثكناته لمواقع انطلاق الهجوم.
- يفتقر اللواء للذخيرة؛ فالموجود منها لا يكفي للاستمرار في خوض المعركة.
السر: وحدة متماسكة في ظروف شائكة؟
نصف السر هو القيادة المؤهلة. فالقائد هنا مؤهل علميًا كأفضل ما يمكن في عصره، ومؤهل عمليًا بتوليه مهام وقيادات عسكرية مختلفة خلال مسيرته المهنية أي أنه جمع العلم، والخبرة، والقدرة على اتخاذ القرار.
هذا نصف السر. وبقيته أنه كان على علاقة ممتازة بضباطه؛ يعاملهم باحترام ورجولة كإخوة وأشقاء. ولذلك نراه يشير إليهم في كتابه بكل الحب والتقدير ويشيد بالصداقة التي جمعته بهم مدى الحياة. كما قريبًا جدًا من جنوده، يعلم أدق حاجاتهم العسكرية والمدنية؛ أي ما يتعلق بتدريبهم وبصحتهم ونفقات أسرهم. وهو يقول أنه يدين لهم بالعرفان لأنهم بادلوه الحب بالحب والتقدير بالتقدير، "فكُنَّا وحدة متماسكة في ظروف شائكة".
إذا استطعت أن تتواصل مع العسكري وتحوز ثقته بصفتك قائدًا (تحوز العلم العسكري والشخصية القيادية) وقدوة له (بأمانتك، وتفانيك، وكريم أخلاقك)، وإذا استطعت إلى جانب ذلك أن تُفْهِمه مفردات واجبات عمله، وأن تزرع فيه الرغبة في القتال لبلوغ الهدف العادل للحرب، فلن يقف أمامك عائق لتحقيق أهدافك، ولن يصمد أمامك عدو، ذلك أنك حُزت القوة التي لا تقهر وامتلكت "وحدة متماسكة" ولتكن الظروف بعد ذلك شائكة أو غير شائكة.
عبد الناصر يبُطل هجوم الفجر وضباط الجيش السوري ينفجرون بالبكاء:
"بدأتُ بإعداد الأوامر لوحداتي المقاتلة، بأن أعين لها أمكنة تواجدها، على أن تكون جاهزة فيه في مطلع الفجر، وكانت الساعة قد قاربت الثانية من صباح يوم 31/10/1956، لقد كانت مهمة قاسية جدًا"، هكذا يقول سهيل العشي عند وصوله لجبال نابلس ليلاً.
"وفي هذه الساعة، يطلبني اللواء علي أبو نوار على الهاتف، ويأمر بالتوقف عن عمل أي شيء فيما يتعلق بالمهمة الهجومية، وأن أعود إليه فورًا".
ولما وصلت إليه، أبلغني أن الأوامر صدرت من القيادة المشتركة في القاهرة، تطلب التوقف عن أي هجوم، وأن تنتقل القوات كلها إلى مواقع دفاعية". فاحت رائحة الخيانة، ولم يتمالك ضباط الجيش السوري أنفسهم لحرمانهم من القتال استعدوا له، ومن ثأر يتلظى في صدورهم، ومن نصر كان قريبًا من أيديهم، فانفجروا بالبكاء.
كان رائد القومية العربية الزعيم الملهم جمال عبد الناصر قد أعطى لأمريكا عام 1952 تعهدًا بتجميد القضية الفلسطينية عشر سنوات، ولم يكن قد مضى على هذا التعهد سوى أربع سنوات فقط. لكننا نحن الجمهور الذي كان يهتف بحياة عبد الناصر،لم نعرف ذلك إلا منذ سنوات قليلة فقط.
لم يبطل جمال عبد الناصر هجومًا عربيًا على شمال إسرائيل بقوة جيشين، وهي منشغلة على جبهة القناة، وينقذ رقبتها فقط، وأنما وأد بهذا القرار الخياني العمل العربي المشترك كله. فلو تم الهجوم السوري، لصارت عادة أن تهب الجيوش العربية لنصرة بعضها كلما تعرض أحدها للعدوان. تم ذلك عام 1948 وكان على وشك أن يتكرر عام 1956، ويترسخ كعُرْف في تاريخنا المعاصر.
الجيش حركة ونار، والارتداد إلى إربد:
كضابط مقتدر، لم يرض العقيد سهيل العشي أن تبقى قواته في خط الانطلاق للهجوم دقيقة واحدة بعد إلغاء أمرالهجوم. كان يعتقد دومًا أن "الجيوش حركة ونار" وليست للخنادق أو الاستعراض. لذلك فإنه فور تبليغه بإلغاء الهجوم، قام على الفور بالارتداد إلى العمق ولم تشرق عليه الشمس إلا وهو في صُويلح في ضواحي عمَّان حتى لا يترك قواته مصفوفة على سفوح نابلس أمام العدو الإسرائيلي لتصبح لقمة سائغة لطيرانه ومدفعيته. وحين عرض عليه الملك حسين البقاء في مكانه، أبى وفضل أن يربض في مكان يكون له فيه اتصال بري بقاعدته في سوريا، فكان أن أعطي مهمة الدفاع عن القاطع الشمالي من الجبهة الأردنية ومقره في إربد.
السيف الدمشقي حرًا:
من الذي أعطى لقائد الجمهرة السورية أوامره ومن الذي أملى عليه قراراته؟ حينما كان يعين الخليفة قائدًا لجيش، فقد كان يعطيه الصلاحية الكاملة للتصرف لتحقيق مهمته، دون أن يملي عليه تفاصيلها.
هذا المبدأ الهام في القيادة الذي فقدناه في أيامنا هذه فقتلنا روح المبادرة واتخاذ القرار عند ضباطنا ومسؤولينا، حتى بتنا ننتظر قرار الرئيس أو الوزير في أتفه الأمور، وأصيبت بلادنا بالشلل. وأبرز مثال على خطورة هذا البلاء أنه حين قامت القيادة الأمريكية بتقدير الموقف قبل غزو العراق الأخير عام 2003 فإنها وضعت في حسابها وبوضوح فقدان الضباط العراقيين لروح المبادرة وعجزهم عن اتخاذ القرار، ولذلك بادرت لتدمير وسائل اتصالهم بقياداتهم، مما جعل القِطَع المقاتلة تقبع عاجزة عن القيام بأي حركة بانتظار أوامر قيادتها.
الهجوم الرئيسي من الجولان:
لم يكن الهجوم السوري المخطط على العدو الإسرائيلي لإجباره للارتداد عن الجبهة المصريةن موجّهًا من جبهة الأردن فقط. بل إن رفض قيادة الجيش السوري تعزيز "الجَمْهَرة السورية الأولى"، إنما كان بسبب الاحتفاظ بأقوى القِطَع الحربية للهجوم الكبير على إسرائيل من جبهة الجولان بقوات الجيش السوري وحده وبدون مساعدة من أي دولة عربية أخرى. وليس تحت يدي تفاصيل ذلك، لكني رويت مرةً ما ذكرته آنفًا في مجلس كبير في عجمان قبل عدة سنوات، فإذا بشيخ كبير ينتفض ويقول، ونحن أيضًا على الجبهة (جبهة الجولان) وفي الوقت عينه، جاءنا الأمر بالتقدم لاحتلال خط الهجوم الأول، وغمرتنا الفرحة، فقمت وحملت جهاز اللاسلكي الضخم على ظهري وتسلقت تلاً ووضعته في خندق معدٍ في أعلى ذلك التل، ولولا الفرح وشدة الانفعال ما تمكنت لا أنا ولا غيري من حمل هذا الجهاز الثقيل منفردًا.
قررتُ احتلال مطار المفرق
ونعود للعقيد سهيل العشي حيث يتابع في مذكراته: "بعد أيام من استقرار الجمهرة في أوضاعها الجديدة، وجدت أن الطائرات الإسرائيلية تمر في سمائنا لتهبط في مطار المفرق وبالعكس. ولم يكن من الطبيعي أن أتحمل وجود قاعدتين عدوتين منتشرتين أمامي وخلفي، فقررت احتلال مطار المفرق. لكني استأذنت بذلك قائد الجيش الأردني علي أبو نوار. لكن الإلحاح كان قويًا بعدم اللجوء لهذا العمل، لأن أخبارًا قريبة جدًا سوف تذاع وتزيل هذا القلق".
وبالفعل، فإنه لم يمض أكثر من 24 ساعة، حتى سمعنا من إذاعة الأردن، أن الملك حسين قرر إلغاء المعاهدة البريطانية. وصدرت لنا الأوامر بدخول المطار واستلامه، وكذلك الثكنات التابعة له.
أعيد التأكيد هنا على أن ضمير المتكلم في المقطع السابق يعود إلى العقيد سهيل العشي قائد الجمهرة السورية الأولى المتمركزة في إريد بشمال الأردن. وأن الزمن كان شهر نوفمبر تشرين الأول من عام 1956. وأن المطار كان قاعدة عاملة ناشطة للقوات الجوية البريطانية، وأن بريطانيا كانت وقتها إحدى الدول الأربع العظمى المنتصرة في الحرب، وعضوًا دائمًا في مجلس الأمن، وكان لها ثلاث قواعد جوية أخرى عاملة في المنطقة هي قواعد: الحبانية في العراق، وأكروتيري في قبرص، والعضم في ليبيا.
والمتكلم ليس مجنونًا أو ذا خيال مجنَّح، لكنه ضابط كبير مؤهل، عنده من العلم والثقة بنفسه وبقواته ما يؤهله لتنفيذ قراره. ولما أملت عليه الضرورة احتلال مطار المفرق، فَعَل. لم يتلكأ بانتظار الأوامر من القيادة بدمشق حتى لا يدخل في لعبة الحسابات السياسية، ولم ينتهك حرمة السيادة الأردنية وهو ضيف على أراضيها تجنبًا أيضًا للمشاكل السياسية، بل بادر بإبلاغ قيادة الجيش الأردني بما نواه، وأعطاها المهلة التي طلبتها، وتحرك في التوقيت المناسب ليبرق السيف الدمشقي الذي أغمد بعد معركة تشنق قلعة أو Suvla Bay في 9 يناير عام 1916، حيث شارك بكل الكفاءة والاقتدار الآلاف من أبناء سوريا في فرقتي المدفعية 23 و26. من الجيش العثماني ويوم أن فتحت هذه المدفعية النار على القوات البريطانية الغازية، صار هذا اليوم يومًا للحزن والحداد الوطني في إستراليا، وما زال كذكك حتى اليوم، لأن الإنكليز وضعوا الاستراليين في مقدمة جيوشهم فوقعت بهم أفدح الخسائر البشرية.
من أين سطع هذا الجبروت وهذه القوة؟
ما الذي أنتج كل هذه الكفاءة والمقدرة؟
الجواب بسيط، إنه الانتماء.
كان الحكم في سوريا دستوريًا برلمانيًا. السلطة فيه للبرلمان المنتخَب، ثم لرئيس الوزراء الذي يعينه البرلمان والذي يعتمد بقاؤه في الحكم على صوت واحد، وكان البرلمان مكونًا من 120 عضوًا نصفهم من المستقلين والنصف الآخر يمثل جميع الأحزاب بدءًا بالحزب الشيوعي وانتهاء بالإخوان المسلمين، مرورًا بالحزبين الليبراليين القويين: ا"لشعب" و"الوطني"، وكان التمثيل شاملاً ولم يكن أي طيف سياسي غائبًا عن البرلمان. وكان هناك فصل تام بين السلطات الثلاث؛ التشريعية، والتنفيذية، والقضائية.
كانت كرامة الناس موفورة وكانوا يحكمون بالقانون المدني السوري العتيد. ولم تكن هناك حالة طوارئ معلنة رغم أن الظروف المحيطة بالبلد كانت خطيرة. وكانت الصحافة حرة مئة بالمئة، لا توفر أحدًا ولا تخاف من أحد. ولهذا هرع الناس متطوعين غير مدفوعين لتشكيل المقاومة الشعبية دعمًا للمجهود العسكري للبلاد.
كان الرئيس شكري القوتلي يرحمه الله مناضلاً سابقًا بروحه وماله ضد الاستعمار، حكموا عليه بالإعدام خلال الجهاد ثلاث مرات وأبقاه الله ليموت على فراشه عند استيفاء أجله. ودخل العمل العام ثريًا وخرج منه لا يملك بيتًا لسكناه. كان من الطهارة والكبرياء بحيث وضع جبهته في جبهة ونستون تشرشل وأنفه على أنفه وهو فوق طرَّاد بريطاني في البحيرات المرة عام 1942 وحين صاح شرشل مفتخرًا وقال: "ألا تدري أنت مع من تتكلم، أنا القائد العام لقوات الحلفاء"، فأجابه شكري القوتلي بكل ثقة صارخًا: "وأنا زعيم الشعب السوري". وبعد الاستقلال رضي شكري القوتلي أن يصبح رئيسًا دستوريًا لبلد الحكم فيه للبرلمان، ثم قامت قواته باحتلال مطار تشرشل -مطار المفرق البريطاني بعد مهلة لم تزد عن 24 ساعة.
السيف الدمشقي قاطع في غمده:
لم يقدِّر الله تعالى للهجوم المشترك السوري الأردني أن يتم. لكن سوريا مع ذلك فجرت أنابيب النفط البريطانية والأمريكية التي تعبر أراضيها، وفجرت محطات الضخ التابعة لها، وأسقطت قاذفتي قنابل كانبيرَّا بريطانيتين انتهكتا أجواءها في مهمة استطلاعية، وأخيرًا دمرت وأغرقت أكبر قطعة بحرية فرنسية بنيت في التاريخ بيد الضابط البحار السوري المسيحي البطل "جول جمَّال". وسجلت سوريا صفحة عز، تلتها صفحات مجيدة للجيش العراقي الذي كان قلبه على الشام يهب لنجدتها كلما استشعرت خطرًا.
أعرفتم الآن ما الذي تبغيه قوات التحالف في سوريا؟
التدقيق اللغوي: أنس جودة عبد التواب.