جرّب يوما أن تطارد هرة محاولا الإطباق عليها بكفيك القويتين ,ستراوغك يمينا وشمالا ,وربما تنجح في الانفلات بسرعة البرق من تحت قدميك ,لكن إن لم يسعفها الحظ ولم تنجدها الخفة واضطرت لملاقاتك وجها لوجه فستكشر عن أنيابها الصغيرة ومخالبها الحادة وتجمع جراميزها – كما يقولون – في وثبة يائسة تصيبك ببعض الخدوش والجروح لكنها لن تكون كافية للتحرر من قبضتك (الحديدية) غير الرحيمة !! في عالمنا العربي لا تترك السلط الاستبدادية للهرة منفسا ولا مساغا يمنعها من التهور نحو تلك القفزة اليائسة بآثارها الدامية,ففي كثير من البلدان تُعد فكرة وجود معارضة سياسية للنظام ضربا من التمرد على القانون والخروج على الأعراف السائدة,ومن ثم فلا مكان لأهلها سوى المعتقلات والمنافي!ففكرة المعارضة يصورها منظورنا الثقافي والاجتماعي والتربوي بأنها رجس من عمل الشيطان ,فالمعلّم في قاعة الدرس يعدّ تجرؤ بعض طلابه على تصحيح معلومة خاطئة تفوّه بها جريمة لا تغتفر ولربما حقد المعلم وانتقم من الطالب المعارض شر انتقام عند إعلان النتيجة ,والأب في البيت يوصد باب النقاش في وجه أفراد الأسرة باعتباره رب الأسرة الأعلم بمصالحها ,ومن هذه الزاوية: فما الحاكم (الملهم!) إلا رب لأسرة كبيرة يملك من السلطة والنفوذ ما يؤهله لأن يكون كبير العائلة دون منازع !.
يتمحور جوهر المشكلة حول فهمنا لمدلول لمعارضة وتفسيرها بمعنى التحدي والتعدي فنتخذ إزاءها-معلمين وآباء وحكاما – موقفا سلبيا مشحونا بروح التحدي وعنفوان الأنفة,ولو تعلّمنا منذ الصغر أن المعارضة الناجحة قيمة سلوكية حميدة لأنها تقوم بدور إسنادي تكميلي لجهود المعارض – بفتح الراء -,لأدركنا أن المعارضة ليست تحديا أو افتئاتا بل تعاون وتتميم وتوجيه, فالنفس البشرية مهما ارتقى شأوها في مدارج المعرفة والحكمة ليست معصومة من الوقوع في الخطأ, ومن ثم فعليها أن تعتقد جازمة أن بلوغ الكمال ونيل الغاية مرتهن بجهود الآخرين التي تتمم نقصها وتسد عوزها.ومن الغريب حقا أن تتباهى الخطابات الرسمية بعدم وجود معارضة بدعوى أن روح الأسرة الواحدة هي الغالبة السائدة ,مع أن هذا الغياب ينبغي أن يعدّ مؤشرا على التخلف ومعبرا عن جبروت سطوة الحكم الفردي الذي لا يقبل أن يقاسمه أحد صناعة قرار ورسم سياسة يتجرع تبعاتهما الملايين ,في حين تلعب المعارضة في الديمقراطيات الغربية دورا إصلاحيا كبيرا بحيث تشكل حكومات ظل موازية للحكومات الفعلية وذلك في سبيل تفعيل دورها الرقابي بما يكفل في النهاية مصالح المجتمع ويحقق طموحات أفراده :الحكوميين والمعارضين معا.وبالطبع فإن لا أحد في عالمنا العربي يحلم بتحقيق هذا التطور الضخم بل لا أبالغ أن الكثيرين سيقنعون بوجود معارضة شكلية تمثل صنبور تنفيس للغليان الشعبي المتعاظم يوما بعد يوم,فقيام هذا النوع من المعارضة المقننة رسميا سيقلل بدرجة كبيرة من الظروف الميسرة لقيام معارضة ذات طابع عنفي تختبئ تحت الأرض وتتخذ من خنق صوت المعارضة السلمية ذريعة لما تقوم به من عمليات تدميرية رعناء قد تحظى في ظل غياب الحريات بتعاطف الأغلبية المغيبة عن صناعة القرار.
ومع إهلالة الألفية الثالثة وما صاحبها من تغيرات خطيرة تعتري السياسات العالمية مع ما يعصف بمنطقتنا على وجه الخصوص من أحداث وأزمات يغدو من الضروري أن تحل سياسة الحوار والاحتواء محل السياسة الأمنية المخابراتية في التعامل مع التيارات المعارضة إذ قد يفلح الحل الأمني مؤقتا في تثبيت سلطة النظام الحاكم غير أن ذلك سيترك آثارا خطيرة بمرور الوقت والإصرار على منع الأفراد من التعبير عن مطالبهم بطريقة سلمية وهو ما يبذر بذرة الإرهاب والعنف ,إن السماح للهرة بمنفذ ضيق لن يحقق لها ذلك الانتصار الكاسح الذي يذهب بهيبة مطاردها لكنه بالتأكيد سيوفر عليه كثيرا من الجراح والندوب.