نجح الرئيس الموريتاني معاويّة ولد طايع في تمرير لعبته الإنتخابيّة متوجّا نفسه رئيسا بل ملكا غير معلن لموريتانيا التي يسيّر ولد طايع دفتها منذ أزيد من عقدين من الزمن , فبعد أن فقد كل رصيده السياسي في الشارع الموريتاني بسبب إفلاس مشروعه السياسي الذي لم يحققّ لموريتانيا غير التبعيّة و إرتفاع حدّة الديون , و بسبب علاقاته المشبوهة بالكيّان الصهيوني والتي ورغم المطالبة الجماهيريّة الموريتانية بضرورة وضع حدّ لها إلاّ أنّ النظام الرسمي الموريتاني مددّ فترة شهر العسل مع الكيان الصهيوني لفترات لاحقة مفتوحة وبدون حدّ زمني . و قد جاءت المحاولة الإنقلابية الأخيرة بعد أن عجز النظام الموريتاني بقيّادة معاوية ولد طايع في تحقيق التقدمّ السياسي والإقتصادي لموريتانيا شأنه شأن العديد من النظم العربية التي حققّت العديد من التراجعات الكبيرة والتي أفضت إلى إحداث إحتقان شديد في الواقع السياسي والإجتماعي , فسياسيّا ظلّت المؤسسّة العسكريّة الموريتانيّة والتي يتزعمهّا دستوريّا الرئيس الموريتاني معاوية ولد طايع تشرف على تفاصيل صناعة القرار مبعدة بذلك كل القوى السياسية الموريتانية وتحديدا القوى الوطنية والإسلاميّة التي تشكّل الرقم الأقوى في المعادلة السياسية الموريتانية , و كان النظام الموريتاني يتعامل مع الوطنيين العروبيين والإسلاميين تعاملا خاصا و كثيرا ما كان يقصيهم عن المؤسسات السياسية ومؤسسات القرار بل كان يستأصلهم تماما كما فعلت السلطة الجزائرية مع الجبهة الإسلامية للإنقاذ عقب فوزها في الإنتخابات التشريعية الملغاة في الجزائر سنة 1992 .
ولم يكتف النظام السياسي الموريتاني بحرمان التيارات الوطنية والإسلامية من المشاركة الإيجابية في الحياة السياسيّة , بل قررّ النظام الرسمي الموريتاني وبدون الرجوع إلى البرلمان إقامة علاقات سياسية وإقتصادية وأمنية مع الكيان الصهيوني , و أصبحت السفارة الإسرائيلية محروسة بكثافة من قبل عناصر الأمن الموريتاني في قلب العاصمة الموريتانية نواكشوط , و قد أفضت هذه العلاقات الثنائية بين النظام الموريتاني والكيان الصهيوني إلى قطع كل جسور التواصل بين المعارضة الموريتانية الوطنية والإسلامية والنظام الموريتاني , و قد تفاعل النظام الموريتاني بعد ذلك مع أحداث الحادي عشر من أيلول – سبتمبر 2001 في أمريكا متبنيّا النهج الأمريكي في التعاطي مع الحركات الإسلاميّة و شنّ حملة إعتقالات واسعة في صفوف الإسلاميين والوطنيين وجرى تعذيب المعتقلين بشكل وحشي كما إعترف بذلك العديد من المعتقلين السيّاسيين .
و إنفتاح موريتانيا على الكيان الصهيوني وبعد ذلك على المشروع الأمريكي الأمني القاضي بملاحقة كل ما يمتّ بصلة إلى الإسلام أوحى لكثير من الضبّاط الموريتانيين الشباب بضرورة التحركّ خصوصا وأنّ العديد من الضبّاط الشباب هم من الذين تشبعّوا بالثقافة العربية والإسلامية وكانوا مستاءين إلى أبعد الحدود من التوجهات السياسية لنظام بلادهم الذي عزل موريتانيا بالكامل عن محيطها العربي والإسلامي و تجرأ في أوج الإنتفاضة الفلسطينية أن يوفد رسمييه إلى الكيان الصهيوني لإعطاء الشرعية لرئيس الوزراء الصهيوني آرييل شارون .
و تعليقا على المحاولة الإنقلابية الأخيرة التي جرت في موريتانيا والتي قادها عقيد عسكري سابق في سلاح المدرعّات الموريتاني وهو العقيد صلاح ولد حنّانة الذي أقيل من الجيش الموريتاني في السنة الماضية بسبب توجهاتّه القومية المعارضة للدولة العبريّة و الذي كان معارضا بشدّة لإقامة علاقات رسميّة بين نواكشوط وتل أبيب , قال العسكري المغربي أحمد رامي المقيم في العاصمة السويدية ستوكهولم و قد كان أحمد رامي يشرف على سلاح المدرعات في الجيش المغربي وأشترك في المحاولة الإنقلابيّة التي قادها الجنرال أوفقير ضدّ الملك المغربي الراحل في تمّوز – يوليو من عام 1972 والذي فرّ إلى العاصمة السويدية ستوكهولم بعد فشل المحاولة وحصل فيها على حقّ اللجوء السياسي أنّ المحاولة الإنقلابية التي شهدتها موريتانيا كانت متوقعّة بسبب وجود تململ داخل صفوف الضبّاط الشباب الذين لم يقبلوا على الإطلاق بسياسة رئيس بلادهم معاويّة ولد طايع الذي إنفرد بإقامة علاقات رسمية مع الدولة العبريّة متجاوزا بذلك توجهات الشعب الموريتاني ذات البعدين العربي والإسلامي , و إستطرد رامي قائلا إنّ القيادات المركزيّة في الجيش الموريتاني قيادات علمانية فرانكفونية – مشبعة بالثقافة الفرنسية – وتخرجّت من الأكاديميات العسكرية الفرنسية غير أنّ جيل الشباب في الجيش الموريتاني هم من الذين أتيحت لهم فرصة التعرّف على الثقافة العربية والإسلامية وبالتالي من المتفاعلين مع هذه الثقافة .
ورغم المحاولات التي بذلها معاوية ولد طايع لتطهير الجيش من العناصر المعارضة للعلمنة و التغريب والفرنسة إلاّ أنّه لم ينجح في إقامة مؤسسّة عسكرية بعيدة عن واقعها العربي والإسلامي , و دائما كانت المؤسسّة العسكرية وبحكم تكوينها الفرانكفوني تخشى العناصر العربية والإسلامية و أصحاب هذه التوجهات كان يتمّ بإستمرار طردهم من الجيش وإقالتهم قبل أن يصلوا إلى أعلى المراتب.
وأستشهد أحمد رامي بتجربته عندما رفض رئيس الأركان المغربي في الستينيات طلبه بالإنضمام إلى الكلية العسكريّة في مدينة مكناس المغربيّة لأنّه كان من المعجبين بالتوجهات السياسيّة لجمال عبد الناصر و الكتابات الفكرية لسيّد قطب وتحديدا كتابه معالم في الطريق .
والإنتخابات الرئاسية الأخيرة التي جرت في موريتانيا والتي فاز فيها معاوية ولد طايع مجددا كانت مبرمجة سلفا وكانت تهدف إلى إسترجاع الشرعية المفقودة عن طريق تزوير الإنتخابات خصوصا وأنّ الأجهزة الأمنية الموريتانية تلقّت إشارة خاصة قبل هذه الإنتخابات بضرورة التمكين لمعاوية ولد طايع , و أقتضت الخطّة أن يتمّ إشراك بعض المعارضين في الإنتخابات للإيحاء بأنها شرعية وديموقراطية . والواقع أنّ معاوية ولد طايع والذي نجح في غضون عشرين سنة في بناء مؤسسّة أمنية و عسكرية و سياسية ومنظومة إقتصادية موالية له ما كان ليجازف بإنتخابات حقيقية وديموقراطية لولا أنّ دوائره حبكت اللعبة بإحكام وأرادت أن تعطي حقنة إنعاش لنظام بات مرفوضا في الشارع الموريتاني الذي عبرّ في الحملات الإنتخابية الأخيرة عن رفضه المطلق للعلاقات المشبوهة بين موريتانيا والكيّان الصهيوني .
ويبقى القول أنّ الوضع في موريتانيا سيبقى هشّا حتى لو إستطاع المحيطون بالرئيس الموريتاني من إسقاط المحاولة الإنقلابيّة الأخيرة لأنّ الجيش الموريتاني يعجّ بالخلايا العسكريّة غير المنسجمة مع التوجهات الرسمية للنظام الموريتاني , وحتى لو نجح معاوية ولد طايع من تعيين نفسه رئيسا لموريتانيا مجددا وفي إنتخابات أكدّت كل القوى السياسية الحية في موريتانيا أنّها مزورة ومحبوكة , وتستشهد هذه المصادر بالتاريخ الموريتاني الذي كان ينتج إنقلابات متواصلة وحركات تغيير مضطردة والتي كانت من إنتاج محلي وأحيانا من إنتاج دول إقليمية مجاورة لموريتانيّا , ومهما حاول النظام في موريتانيا من فرض التوجهّات الشاذة على الشعب الموريتاني إلاّ أنّ الشعب الموريتاني المتمسكّ جدا بأصالته الإسلامية والعربيّة قد يفاجئ النظام القائم في أي لحظة .
و المحاولة الإنقلابيّة الأخيرة التي جرت في موريتانيّا و تنديد الناخبين بالخطّ السياسي الرسمي في موريتانيا في الإنتخابات الرئاسيّة الأخيرة و بالأخص التنديد بالعلاقات الموريتانية – العبريّة هي رسالة قويّة على طاولة الرئيس الموريتاني معاوية ولد طايع , فإماّ الإستمرار في النهج السياسي المنفتح إلى أبعد الحدود على واشنطن وتل أبيب وبالتالي توقع محاولات إنقلابية في أي لحظة خصوصا في ظل توفر الأرضية والشروط من داخل المؤسسّة العسكريّة وبروز تيّار شعبي جماهيري غاضب قد يحدث المفاجأة في أيّ لحظة , أو تغيير النهج السياسي الذي أفضى إلى المحاولة الإنقلابية و وضع إستراتيجية جديدة تتماشى مع تطلعات الشعب الموريتاني ولا تتضارب معه , و بدون ذلك ستبقى موريتانيا حبلى بالمفاجآت كما كانت دائما !