وخلال ما مر من هذا العام بدأت بوادر اهتمام جاء متأخرا بدراسة الظاهرة الأمريكية ، ففي الأول من فبراير ورد في بعض الصحف خبر صغير مفاده أن الأمير الوليد بن طلال تبرع مؤخراً بمبلغ عشرة ملايين دولار للجامعة الأميركية في القاهرة من أجل إنشاء قسم خاص بالدراسات الأميركية . وقد نشر المفكر الفلسطيني المعروف الدكتور إدوارد سعيد ( أستاذ الأدب المقارن بجامعة كولومبيا ) مقالا مهما عنوانه : " الولايات المتحدة بمنظار آخر " في لوموند ديبلوماتيك الفرنسية ( عدد مارس 2003 ) تناول فيه بالتقييم مدى دقة الإدراك العربي لحقيقة الولايات المتحدة وكان مقاله حافزا قويا لإعادة طرح القضية للنقاش . وأهم ما في شهادة إدوارد سعيد أن النظرة الخيالية تماماً إلى الواقع الأميركي التي ينطلق منها القادة العرب ومستشاروهم - المتخرجون عادة من الولايات المتحدة - نظرة تفتقر إلى التماسك إذ تتمحور حول الفكرة القائلة بأن " الأميركيين " يقررون كل شيء في العالم ، حتى وإن كان هناك في التفاصيل تشكيلة واسعة وحتى معقدة من الآراء المختلفة ، بدءا بالمقتنعة أن الولايات المتحدة ليست سوى مؤامرة يهودية إلى تلك القائلة بأنها ليست إلا مصدراً لا ينضب للبراءة والطيبة ومساعدة الضحايا ، أو أيضاً أنها تدار من الألف إلى الياء من البيت الأبيض عبر شخصية بطولية تتمثل برجل أبيض لا نزاع على سلطته .
ويكمل إدوارد ، على مدى عشرين عاماً كنت فيها أتردد على السيد ياسر عرفات ، حاولت مراراً أن أوضح له أن أميركا هي مجتمع معقد تتشابك فيه التيارات والمصالح والضغوط والقصص المتميزة ، وأنها لا تحكم مثل سوريا مثلاً ، وأنها كحكم وسلطة نموذج مختلف يستحق الدراسة . وقد جندت لهذا الغرض صديقي المرحوم إقبال أحمد الذي تحلى باطلاع عميق على المجتمع الأميركي والذي كان ربما أفضل المنظرين والمؤرخين لحركات التحرر الوطنية ، وقد رغبت إليه أن يبحث بمشاركة غيره من الخبراء مع السيد عرفات في تطوير نموذج أكثر دقة كان في إمكان الفلسطينيين أن يستفيدوا منه في الاتصالات التمهيدية مع الحكومة الأميركية في أواخر الثمانينات . لكن ذلك باء بالفشل . كان إقبال أحمد قد درس العلاقات بين جبهة التحرير الوطني في الجزائر وبين فرنسا خلال حرب 1954 ـ 1962 كما درس الطريقة التي اعتمدها الفييتناميون الشماليون في مفاوضاتهم مع السيد هنري كيسنجر خلال السبعينات وصدمه هذا الفرق الشاسع بين المعرفة الدقيقة والمفصلة من جانب جبهة التحرير الوطنية والفييتناميين بمجتمع العاصمتين ( باريس وواشنطن ) وبين معرفة الفلسطينيين الأقرب ما تكون إلى الكاريكاتور بأميركا .
فعرفات لم يكن يحلم إلا بأمر واحد هو أن يدعى شخصياً إلى البيت الأبيض ، وفي ما يتعلق بعمل المقاومة وبصنع السياسة في عالم لم يبقَ فيه سوى قوة عظمى وحيدة طاغية ، ظلت الأمور كما كانت عليه منذ أكثر من نصف قرن فغالبيتهم يرفعون أيديهم متذمرين كالعشاق المحبطين ، مرددين أن لا أمل يرجى من أميركا . والحال أنه في عالم بات تحت القبضة الضاغطة لقوة عظمى ذات قدرات لا حد لها، بات من الملحّ معرفة ديناميتها الداخلية المتفاعلة كالإعصار . وهذا ما يستدعي إتقان لغتها ، وقلة من الزعماء العرب يجيدونها . نعم إن أميركا هي بلد ماك دونالدز وهوليوود والجينز والكوكاكولا والسي . أن . أن . والبضائع المصدرة التي نجدها في كل مكان بفعل العولمة ونتيجة ما يبدو تعطشاً لا يرتوي في العالم أجمع إلى سلع استهلاكية مريحة وسهلة الاستعمال . لكن علينا أن نفهم أيضاً سبب ذلك وكيفية تفسير هذه السيرورة الثقافية والاجتماعية التي تجسدها . فالخطر البارز للعيان هو في النظر إلى الولايات المتحدة نظرة تبسيطية خامدة اختزالية .
ويرسم سعيد صورة للمشهد العام العجيب للولايات المتحدة ، كما يراه أميركي يحتفظ ، بحكم أصوله الفلسطينية ، بنظرة الأجنبي ، وإذا كان لكل إمبراطورية أصالتها وتؤكد عزمها على عدم تكرار طموحات أسلافها الجموحة ، فإن الولايات المتحدة تدّعي إضافة إلى ذلك " غيرية قدسية وبراءة سليمة القصد " . وقد تحركت ، دعماً لهذا الوهم المقلق ، كتائب بأكملها من المفكرين من ذوي النزعات اليسارية السابقة إلى حد ما . وهؤلاء تميزوا في الماضي بمعارضتهم القيام بأي مغامرة عسكرية ، وقد باتوا اليوم مستعدين للدفاع عن فكرة " الإمبراطورية الفاضلة " بأساليب متنوعة تراوح بين النزعة الوطنية الديماغوجية والصلافة المرائية ولعبت أحداث 11سبتمبر دورها في هذا التحول .
وإلى جانب هؤلاء اليساريين السابقين هناك اليمين المسيحي ذو التأثير الكبير ، بل الحاسم . ونظرة هذا اليمين إلى العالم مستمدة بشكل أساسي من العهد القديم قريبة من نظرة إسرائيل إليه . والولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة في العالم التي تبدي بشكل علني تمسكها بأهداب الدين . فحياة الأمة مشبعة بالإحالات على الله ، من قطع النقد إلى المباني العامة إلى الشهادات اللغوية ، والقاعدة الشعبية التي يقوم عليها حكم جورج دبليو بوش مؤلفة من حوالي 60 إلى 70 مليون رجل وامرأة يؤمنون مثله بأنهم التقوا يسوع المسيح وأنهم وجدوا على الأرض من أجل إتمام عمل الله في بلاد الله !! . وقد زعم بعض علماء الاجتماع والصحافيين ( ومنهم فرنسيس فوكوياما ) أن النزعة الدينية في أميركا المعاصرة نابعة من حنين إلى الاستقرار في وقت يغير فيه باستمرار 20 % من الشعب الأميركي وظيفته ومكان إقامته وليس هذا سوى جزء من الحقيقة ، وما يهم أكثر هو أننا إزاء ديانة نورانية نبوية ذات قناعة راسخة برسالتها الرؤيوية التي لا علاقة لها البتة بواقع الأمور وتعقيداتها .
كل هذه الأيديولوجيا تتوافق على القول بأن الولايات المتحدة تمثل الاستقامة والصلاح والحرية والأمل الاقتصادي والتقدم الاجتماعي . وهذه الأفكار تنصهر في الحياة إلى درجة أنها لا تبقى مجرد إيديولوجيات بل تبدو كحقائق " طبيعية " فأميركا تساوي الخير والصدق والمحبة . فهناك الإجلال غير المشروط تجاه الآباء المؤسسين والدستور فأميركا الأزمنة الأولى نقطة ارتكاز الأصالة . وانتهت شهادة إدوارد .
وفي تقديرنا فإن المأزق الحقيقي في العلاقات العربية الأمريكية ليس في درجة التشدد إزاءها أو الاستعداد لمعاداتها بل في الإدراك العربي لحقيقتها على نحو يمكننا من إدارة علاقاتنا معها - تحالفا أو صراعا - على نحو يحمي مصالحنا ، والعقل التحليلي العربي واجه أسئلة مفصلية بشأنها لم يستطع حتى الآن أن يقدم لها إجابة شافية ، ومنها : هل الولايات المتحدة دولة علمانية إمبريالية أم دولة صليبية مسيحية ؟ ، هل هي مستعمرة صهيونية أم أن الكيان الصهيوني لا يعدو أن يكون ذراعا للمصالح الأمريكية ؟ ، هل ما بيننا وبينها صراع مصالح أم صراع حضارات ؟ وهل من المحرم دينا أو وطنية أن تلتقي مصالحنا مع مصالح الولايات المتحدة ؟ ، هل تنطوي علاقتنا بالولايات المتحدة على سوء فهم ؟ ، هل تستحق الولايات المتحدة وصف " الشيطان الأكبر " ؟ وهل هي أسوأ القوى العظمى على ساحة السياسة الدولية ؟ ، وهل ثقافة العداء للولايات المتحدة نخبوية ؟ وما تفسير الانتشار الكبير عربيا - وعالميا - لنمط الحياة الأمريكي وطوابير الراغبين في " الحلم الأمريكي " على أبواب سفاراتها من الراغبين في الهجرة ؟ ، وهل تجب التفرقة بين الشعب الأمريكي والإدارة الأمريكية ؟ ، وأخيرا : هل الولايات المتحدة في طريقها للانهيار أم لمزيد من القوة والسيطرة ؟
ويبقى سؤال يفرضه الحضور الطاغي للشأن الأمريكي في العالم العربي : هل تعكس ندرة المؤسسات العربية المتخصص بالشؤون الأمريكية ، قياسا بالمؤسسات العربية المتخصصة بحقوق الإنسان أو المرأة أو الكيان الصهيوني تقصيرا في دراسة الظاهرة الأمريكية ؟