إن مشروع المنظومة الحزبية بالمغرب عرف النور في منتصف عشرينات القرن الماضي. وهي منظومة فرضتها قوى سياسية وتنظيمية عاشت ظروفا خاصة في تقلص المجال الحزبي آنذاك وعدم التجانس التنظيمي وضعف التأطير.
وما دام كل مشروع حزبي يختزن في جوهره هيمنة إديوليجية وسياسية، فقد استندت الفكرة الحزبية في المغرب على القومية { والإصلاح كمنظومة سلفية تمحورت أهدافها بالأساس حول مبدأ الإصلاح } وبعد الاستقلال عرف المغرب بنية امتدت وتوسعت على شكل هرمي تميزت بتفشي الرشوة والتدبير والركود. وتميز الركح السياسي آنذاك بكثرة الأحزاب المتناقضة مع الطابع المنسجم و المتماسك للجهاز البيروقراطي المهيمن.وهكذا أضحت التعددية الحزبية يقابلها جهاز بيروقراطي متكمن من جميع القطاعات الاجتماعية الحيوية. علما أن حالة المغرب ظلت تعتبر من الحالات النادرة في إفريقيا و العالم الثالث عموما فيما يخص عدم سيادة الحزب السياسي الوحيد، رغم أن الحركة الوطنية شكلت كتلة تاريخية تنظمت من خلال حزب كاد أن يكون وحيدا إلى حدود السنوات الأولى من الاستقلال. وهذه الصيرورة فعلت فيها عوامل سوسيولوجية وعوامل سياسية.
في رأيي ثلة من المحللين فإن التعددية بالمغرب لم يكن لها تأثير كبير ومباشر على النظام السياسي المغربي، كما أن حزب الاستقلال – وهو أعرق الأحزاب المغربية – لم يستطع أن يكون حزبا وحيدا و أن الحركة الوطنية لم تنجح في تجاوز خلافاتها وتحقيق وحدتها.
ومن العوامل التي طبعت هذا المسار، هناك الاختلافات العرقية والجغرافية والاجتماعية والتباينات الإيديولوجية والاختلافات الشخصية، وكلها عوامل أثرت بشكل أو بآخر على صعيد التنظيمات النقابية والجمعيات المهنية وغيرها وليس فقط على صعيد الركح السياسي والحزبي الضيق. وهذه التباينات تعكس في الحقيقة التنوع الاجتماعي الذي ظل يطبع المغرب.
إلا أن هذا التنوع الاجتماعي لا يفضي بالضرورة إلى تعدد في التنظيمات ما دام قد أفضى في دول أخرى عديدة إلى نظام الحزب الواحد.
وحسب زارتمان – وهو صاحب مؤلف حول التعددية بالمملكة المغربية – فإن كل تنظيم سياسي يمكنه أن يتحول إلى حزب وطني وحيد متى استطاع احتكار الوسائل المادية والإيديولوجية التي تخول له احتواء مختلف الصراعات. لكن متى استطاع احتكار هذا التنظيم هدفه الأساسي في الوصول إلى السلطة وفقد حماسه الحزبي تحول الأمر إلى دولة بدون حزب، و إذا وجدت قنوات بديلة عن السلطة ومنحت الحرية في المشاركة و التنظيم فإن ذلك سيسفر عن تبلور نظام سياسي تعددي.
إلا أن التعددية السياسية بالمغرب منذ انطلاقها شلت حركة التنظيمات السياسية ولم تجعلها تلعب الدور الأساسي في اتخاذ القرارات، إذ أنها ظلت تلعب دور جماعات المصالح دون أن تؤثر في آليات »خلق السلطة « حسب تعبير » زارتمان «.
إن التنظيم السياسي للحركة الوطنية لم يكن يستند على أسس مصلحية واضحة المعالم، وحزب الاستقلال كان يضم شرائح اجتماعية مختلفة ومن أجيال مختلفة وحرص أن يظل كحزب مهيمن. وفي سنة 1958 تشكلت حكومة ذات أغلبية استقلالية إلا أن برزت في صفوفه خلافات لم يقو على احتوائها فظهرت أحزاب جديدة منافسة له في ذات الوقت الذي عرفت فيه شرخا كبيرا في صفوفه.
وانسلخ منه حزب جديد هو الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، كما أنه فقد جملة من أطره وشخصياته ذات النفوذ والتي أسست حركة الأحرار المستقلين ) وهي الفائزة بربع عدد المقاعد في الانتخابات الجماعية ( المجالس المحلية في سنة 1960.
إلا أن أغلب المحللين السياسيين يعتبرون التعددية السياسية التي عرفها المغرب سنة 1960 لم تكن عبارة عن تشر ذم سياسي و إنما كانت عبارة عن نوع من التمايز الطارئ في صيرورة إعادة ترتيب الركح السياسي المغربي. وفي هذا المضمار يكون الانشقاق تعبيرا عن اندماج حزب الاستقلال في اللعبة السياسية لا سيما بعدما تخلص من عناصر التحالف الوطني القديم. فحزب الاستقلال كان يضم زعماء تقليديين لهم نفوذ في مختلف أرجاء البلاد، كما ضم التجار و الحرفيين وصغار البرجوازيين، لكن كانت تتزعمه البرجوازية الفاشية بالأساس. أما الاتحاد الوطني للقوات الشعبية فكان يضم زعماء لهم ارتباط بالمدن الصناعية الكبرى ، إضافة للمنشقين من حزب الشورى والاستقلال كما كان له حضور بارز وسط صغار الموظفين ، وقد استطاع الفوز في انتخابات 1963 في المدن الساحلية من طنجة إلى أكاد ير . أما حزب الحركة الشعبية فإنه تماثل خصوصا مع الشرائح البربرية وشرائح تقليدية تعيش في مناطق فقيرة، وقد تميز هذا الحزب بارتباطه بالملكية وانتقاده الشديد لحزب الاستقلال اعتبارا لسخطه التاريخي على البورجوازية الفاسية.
وهكذا يمكن اعتبار التعددية الحزبية بالمغرب أنها قامت على أكتر من معيار. فهناك صراع الأجيال والصراع الثقافي مدن، بادية، سهول، جبال، والفئات والشرائح الاجتماعية – حداثة – والصراع الجغرافي العرقي.
ومختلف هذه الأحزاب عرفت تمايزا إيديولوجيا وسياسيا، فعلى المستوى الإيديولوجي غالبا ما كان حزب الاستقلال يؤكد على القيم التقليدية في حين يؤكد الاتحاد الوطني للقوات الشعبية على قيم عصرية مستوحاة من التجارب العالمية تجربة اليابان، الدول الاشتراكية إلا أنه لا وجود لفصل إيديولوجي واضح المعالم بين الحزبين، إذ أنهما يؤكدان معا على نفس القيم الوطنية و الدينية دون تحديدها بشكل واضح، وهذا جعل من الصعب تصنيف أي من الحزبين بين العصري و التقليدي. فكلاهما يتبنى بشكل متفاوت مقولات العصرنة و التحديث و الدعوة إلى التنمية الاقتصادية و إلى الديمقراطية والتطور العلمي و التكنولوجي.
وحسب بعض المحللين، فإن الحركة الوطنية المغربية لم تستند على أرضية إيديولوجية واضحة الشيء الذي أدى إلى بروز نوع خاص من الأحزاب بالمغرب، الحزب الزبوني والذي شكل أحد ثوابت الحياة السياسية المغربية. وهذا النوع من الأحزاب لا يقوم على أساس إيديولوجي و إنما يقوم بالأساس على مصالح مشتركة.
ويرى البعض أن هذه الصيرورة التي عرفتها الساحة السياسية المغربية كانت بالأساس نتاجا لطبيعة البنية الاجتماعية المغربية ونظامها السياسي. إن التطور الدستوري الذي عرفه المغرب يعتبر حسب هؤلاء صيرورة تبديل أدى إلى الخروج من السلطنة المخزنية إلى الملكية العصرية. وهذه الصيرورة ألجمت من حرية حركة وحركية الأحزاب المغربية، إذ أضحى التنافس الحزبي قائما ليس فقط على ضرورة تغيير النظام السياسي أو عدم تغييره و إنما بالتنافس حول إشكاليات دستورية بحتة.
وعموما يبدو أن التهميش الذي عاينته الأحزاب المغربية كان نتيجة للتطور العام على مستوى البنية الاجتماعية المغربية ولمناورات سياسية.فعلى سبيل المثال، إن تأميم التجارة الخارجية ومنح بعض الامتيازات للنقابات أفضى حسب البعض إلى إضعاف حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية.كما أن اختفاء الحزب الاشتراكي الديمقراطي وجبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية يعزوه البعض إلى كون أن رجال الأعمال و أصحاب المصالح و الثروات شعروا و أحسوا أن بإمكانهم الدفاع عن مصالحهم و تنميتها بالاتصال مباشرة مع الدوائر العليا في البلاد دون حاجة إلى أي وساطة حزبية كما هو الأمر في دول أخرى. وقد تم دعم هذا بالاتصال مع المؤسسات المالية الدولية. وتكتمل الصورة إذا علمنا أن المشاريع الإنمائية في الميدان الفلاحي قد جعلت نخب و أعيان البادية المغربية ترتبط بالنظام أكثر من ارتباطها بالأحزاب السياسية التي لم تقم على امتداد تاريخ وجودها على اختراق البادية أو التجدر فيها، علما أن العالم القروي بالمغرب كان تحت مراقبة المخزن السلطة ) هكذا كانت نشأة التعددية بالمغرب (…