المنطلقات التي مهدّت لقيّام الإتحاد الأوروبي تقوم على ضرورة أن يكون لهذا الإتحاد خصوصيته ودوره في صناعة السياسات المحليّة والإقليمية والدوليّة , ولعلّ هذا الإتحاد الأوروبي في بعده الأخر كان يهدف إلى مواجهة الأحاديّة الأمريكية التي تكرسّت بعد سقوط الإتحاد السوفياتي السابق , وكان بعض منظرّي الإتحاد الأوروبي يرون أنّ الدول الأوروبيّة منفردة لا تستطيع أن تواجه عصر التكتلات , كما لا يمكن أن تخرج عن ذيول مشروع مارشال الأمريكي الذي بعث الحياة في أوروبا بعد الحرب الكونية الثانية والذي يعتبره هؤلاء المنظرون بأنّه بمثابة الحبل السرّي الذي يربط بين أمريكا والدول الأوروببّة . وإلى ما قبل الحادي عشر من أيلول 2001 كانت المجموعة الأوروبيّة تعمل جاهدة لكي يكون لها سياستها المستقلة عن السياسة الأمريكية وتحديدا فيما يتعلق بسياسة هذا الإتحاد تجاه القضية الفلسطينية وتجاه قضايا العالم العربي والإسلامي . وكانت الدول الأوروبيّة الغنية والكبيرة من قبيل فرنسا وألمانيا والسويد والدانمارك وإسبانيا وإيطاليا تنأى بنفسها عن السياسة الأمريكية الخارجيّة على وجه التحديد , وبقيت بريطانيا وحدها في خطّ الشذوذ السياسي الأوروبي وأصرت على أن تكون مع واشنطن في كل توجهاتها , ويرجع الخبراء الغربيون ذلك إلى كون بريطانيا التي مازالت مسكونة بتاريخها الأمبراطوري
بأنّها تريد أن تلعب أدوارا كبيرة ولن يتأتى لها ذلك إلاّ من خلال أمريكا التي إستفردت بصناعة القرارات الدوليّة . وإذا كان هذا المشهد السياسي في أوروبا قبل الحادي عشر من أيلول 2001 , فإنّ المشهد إزداد تعقيدا وإرتباكا بعد الحادي عشر من أيلول 2001 حيث بعثت واشنطن أكثر من رسالة إلى العواصم الأوروبيّة مفادها من ليس معنا فهو بالتأكيد ضدنّا , وكان هناك إلحاح أمريكي على إقحام المجموعة الأوروبيّة في معادلة الحرب على ما أسمته أمريكا بالإرهاب , بإعتبار أنّ واشنطن تعتبر أنّ أوروبا هيّ أهم حليف لها بحكم التاريخ والراهن , وبحكم المرجعية العقائدية والفكريّة الواحدة . وبداية تجاوبت أوروبا مع طروحات واشنطن الجديدة وأنساقت وراء لحظات الإنفعال , لكن وبعد زوال لحظات الإنفعال والتأثر بدأت العديد من العواصم الغربيّة تراجع نفسها وتدرك أنّ الإنسياق وراء المشروع الأمريكي العالمي الجديد من شأنه أن يجعل أوروبا تقفز على قوانينها الداخلية ومن شأن ذلك أن يؤدي إلى إرباكات داخلية في أكثر من واقع أوروبي خصوصا وأنّ المسلمين في معظم الدول الأوروبيّة هم أصحاب الديّانة الثانية بعد المسيحية وأغلبهم يتمتعون بحق المواطنة , ويحق لهم التصويت والترشح للإنتخابات التشريعية وغيرها . ولحظة الإستيقاظ من الإنفعال بدى في عدم إستجابة كل الدول الأوروبية في الذهاب مع الجيش الأمريكي إلى أفغانستان وحتى بعض الفرق الأوروبية التي شاركت في الحرب الأمريكية في أفغانستان بدأت تعود إلى بلادها تحت ضغط الرأي العام الأوروبي الذي يبدو في غالبيته ضدّ التوجهات الأمريكية . ولأوّل مرة في تاريخ أوروبا تنطلق تظاهرات يشارك فيها عشرات الألاف من الأوروبيين ويهتفون ضدّ السياسة الأمريكية وتوجهات جورج بوش الراهنة . كما أنّ الدول الأوروبيّة لم تبادر إلى وضع حدّ للوجود الإسلامي في أوروبا وحتى أتباع أشد الحركات الإسلامية راديكالية لم يتعرض لهم أحد , والذين طاولتهم الأجهزة الأمنية الأوروبية هم الذين قدمّت بشأنهم وكالة الإستخبارات الأمريكية ملفات , وقد أطلق سراح الكثير منهم بعد أن تبث للأجهزة الأمنية الأوروبية أنّ هؤلاء أبرياء , كالطيّار الجزائري لطفي رايسي الذي إتهمته واشنطن بتدريب الطيارين الذين قاموا بتفجير برجي التجارة الأمريكي في نيورك , وأطلق سراحه لعدم وجود دليل علما أنّ واشنطن كانت تطالب بريطانيا بتسليمه لها , وفي السويد لم يتعرّض أي عنصر من أتباع تنظيم القاعدة للإعتقال علما أنّ مسؤول في الإستخبارات السويدية أعلن أنّ هناك 15 شخصا من أتباع تنظيم القاعدة في السويد ولا يمكن إعتقالهم لأنّهم لم يخرقوا القوانين السويديّة .
وينطلق العديد من الساسة الأوروبيين في توجهاتهم هذه من قاعدة مفادها أنّ بين أوروبا و العالم العربي والإسلامي مصالح إستراتيجية وسياسية وإقتصادية , وهذه الكتلة العربية والإسلامية هي أقرب إلى أوروبا جغرافيّا من أمريكا , وأي تصعيد في الموقف ضدّ هذه الكتلة معناه تعريض الأمن القومي الأوروبي إلى الخطر . ولذلك لم تستهدف العواصم الأوروبيّة الوجود الإسلامي في كل تفاصيله , لكن لاحقت عناصر بأعداد محددّة ثبت أنّها تورطت في أعمال عنف , وهناك إحتياط سياسي وإعلامي رسمي في عدم التعريض بالإسلام وهنا يجب التفريق بين المواقف الرسمية ومواقف وسائل الإعلام ذات الإمتدادات الصهيونية .
وكل النقاشات التي كانت تدور بين الساسة الأوروبيين أثناء إجتماعات الإتحاد الأوروبي
كانت تتطرق إلى ضرورة تمييز السياسة الأوروبية عن الأمريكية , ولعلّ وزيرة خارجية السويد السيدة آنا ليند كانت الأكفأ في القول نيابة عن المسؤولين الأوروبيين أخيرا في العاصمة الدانماركيّة كوبنهاغن : يجب أن نقول لأمريكا لا , وقررّت أن تبعث رسالة بهذا الخصوص إلى وزير خارجية أمريكا كولن باول . ويمكن القول أنّ الرأي العام الأوروبي الذي بدأ يتشكل في أوروبا ضدّ التوجهات الأمريكية الراهنة وقد أرخى هذا الرأي العام بظلاله على صناع القرار في أوروبا تحول إلى تيّار حقيقي ضاغط ومؤثّر , وألمانيا التي كانت أهم حليف أوروبي لأمريكا بعد بريطانيا بدأت سياستها الخارجية تستقّل عن الموقف الأمريكي في الملفين الفلسطيني و العراقي على وجه التحديد .
ويمكن القول أنّ الفجوة بدأت تتسّع بين أوروبا وأمريكا في منحنيات سياسية عديدة , ولا تريد العواصم الأوروبية أن تتحوّل إلى ساحة تصفيات تدفع ضريبة وقوفها الأعمى مع أمريكا , وإذا شرحنّا الخارطة الرسمية الأوروبيّة نجد أنّها تنقسم إلى ثلاث أقسام فهناك
أقلية أوروبية ترى ضرورة الوقوف إلى جنب واشنطن قلبا وقالبا وعلى رأسها بريطانيا ودول أوروبية بدأت تجهر برفض التوجهات الأمريكية مثل فرنسا والسويد وألمانيا والدانمارك والنرويج وبلجيكا وغيرها , ودول أوروبية صامتة وهي تلك التي خرجت من الخيمة السوفياتية سابقا وأنضمت إلى الإتحاد الأوروبي وتعتبر أنّ الأولوية في تأهيل نفسها سياسيا وإقتصاديّا والصمت خير وسيلة لعدم جلب السخط على واشنطن التي تكفلّت بمساعدة هذه الدول الخارجة من البعبع الأحمر . وإذا كانت المواقف الرسمية تجاه العصر الأمريكي موزعة بين الأقسام الثلاث , فإنّ الرأي العام الشعبي في أوروبا موقفه من أمريكا واحد ويتمثل فيما قالته سياسية سويدية من أنّه علينا أن نناضل لكيّ لا تكون واشنطن هي الشرطي الوحيد في العالم ..