لا زال نبأ اعتقال الرئيس العراقي المخلوع يستأثر بمزيد من ردود الأفعال المتباينة وضروب من التفسيرات والتعليلات المتناقضة ,لقد أشغل صدام حسين الناس وملأ الدنيا في كلا يوميه:يوم كان حرا طليقا ,ويوم بات معتقلا ذليلا,ولم يكن أمره غمّة على العاقل المنصف حتى قبل أن يقدم على ارتكاب حماقته الكبرى بغزو الكويت ,ففي أواخر الثمانينيات حين وقعت مجزرة حلبجة الكيماوية انبرى إعلامنا الرسمي والشعبي لتبرئة الطاغية من تلك الجريمة وردد ما كان يردده الإعلام الصدامي من أن الإيرانيين هم الذين قصفوا المدينة بالقذائف الكيماوية,بل وجدنا من أضفى على الجريمة ثوب القصاص ولباس العدل بدعوى أن أبناء حلبجة قد تعاونوا مع الغازي الأجنبي فاستحقوا بذلك عقوبة الخيانة العظمى! فإن كنت في ريب من ذلك فارجع إلى إرشيف الصحافة الكويتية لتلك الفترة لتتيقن من صدق ما أقول!وكما نعلم فقد تحول صدام عشية غزوه للكويت من حامي حمى البوابة الشرقية إلى طاغية بغداد وهدّام العراق ,وعاد من برأوه من جريمة حلبجة إلى اتهامه بها من جديد بحماس لا نظير له !
في قراءة سريعة لردود الأفعال يلحظ المتابع أن عبارة (عبرة للطغاة)قد تكررت على ألسنة كثيرين من المعلقين على نبأ الاعتقال بمن فيهم بعض الطغاة أنفسهم!!نعم لقد كان اعتقاله عبرة للطغاة لكن أين يكمن وجه الاعتبار؟وما الدرس الذي سيعيه الطغاة فينعكس بدوره الإيجابي المؤثر على سياساتهم الداخلية والخارجية ؟ يعتقد كثيرون أن الطغاة سيعتبرون بمصير صدام فيدفعهم ذلك إلى الإقلاع عن طغيانهم و الكفّ عما يمارسونه في حق شعوبهم من عسف وظلم واستبداد,وهنا تضيع الحقيقة وتتشوش الرؤية حين تختلط العبر بالأماني ,ويغفل عما يحفّ العبرة من ظروف وملابسات تعيّن وجهتها وترسم ملامحها,ومما يُعيننا على فهم ذلك أن نوازن بين حدثين يتفقان في نفس النتيجة ويختلفان في المقدمات فنكتشف دور ذلك في توجية بوصلة العبر والعظات ,فسقوط الطاغية الروماني(تشاوشيسكو) في أواخر الثمانينيات مشابه لسقوط طاغية بغداد غير أن مقدمات الحدثين متباينة ,لقد سقط طاغية (بوخارست) في ثورة شعبية غاضبة ضاقت ذرعا بما كان يمارسه من عسف وجبروت دفع بالشعب إلى الانفجار و تقديم أغلى التضحيات في سبيل إسقاط الطاغية ,وقد نجحت ثورة الشعب في تحقيق غايتها ,ولذا فإن مثل هذا الحدث الواقع على هذا النحو يصلح أن يكون عبرة للطغاة ليكفوا عن غيهم وجورهم فالشعوب قد تستكين فترة من الزمن لدولة الطغيان لكن حين يأخذ الظلم بكظام النفوس ويبلغ منها مبلغ اليأس والإحباط تنتفض ثائرة هائجة فلا يقدر على كبح جماح ثورتها حينئذ شيء .
لكنك حين تنتقل بطرفك إلى المشهد العراقي ستجد أن العبرة التي سيستوعبها الطغاة لن تكون في صالح الشعوب المستكينة ,فالطاغية إنما أسقطته أمريكا بقوتها العسكرية الغازية لا الشعب المسكين المبغي عليه ,وبإمكانك الآن أن تدرك العبرة المستفادة بلا عناء ,فالطغاة سيجتهدون أيما اجتهاد في سبيل تحقيق رغبات وأوامر العم سام بعدما رأوا المصير الأسود الذي ألمّ بمن حاول الخروج عن الحظيرة وتجاوز الدور المرسوم له, وسيغدو النموذج العراقي مصدر خوف وتهديد و(اعتبار)يكفل لأمريكا مزيدا من النفوذ والسيطرة في عالمنا الإسلامي ,فالسعيد مَن وُعظ بغيره!وأما الشعوب وحقوق الإنسان و أوهام الديمقراطية والمشاركة الشعبية فأمور لن يعيرها الطغاة بالا إلا بقدر ما يجمّل صورتهم القبيحة ولا يتجاوز حدود التزيين المظهري الذي لا يمس جوهر نظم الحكم الفردي, لقد كان اعتقال الطاغية عبرة للطغاة لكن في الجانب المظلم منه ولا عزاء للقانعين بعيش الذل و الهوان!!.