ولكن ..... في أي سياق يمكن أن توضع " جوانتانامو " في التاريخ الغربي ؟ وإلى أي حد يمكن اعتبارها استثناء في مسيرة الغرب ، أو متغيرا جديدا طرأ يمكن أن يتصف وجوده بالاستقرار والاستمرار ؟ سؤالان يفرضان نفسيهما على كل مهتم بالشأن الغربي وتحولاته بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر ، وبخاصة في ظل تحولات على حالة الحريات في الولايات المتحدة التي تحاول – دائما – تصوير نفسها حاميا للحرية في العالم . وإذا تجاوزنا خطاب السجال و" تسجيل النقاط " تنكشف دلالات مهمة على المستويين السياسي والفكري .
فأول قضية يثيرها احتجاز أعضاء تنظيم " القاعدة " في جوانتانامو قضية البحث عن مكان يخضع لسيادة الولايات المتحدة الأمريكية ، وفي الوقت نفسه ، لا يخضع للقانون الأمريكي ، حتى تستطيع الولايات المتحدة الوصول إلى أهدافها ، وربما دون أن تشعر بوخز الضمير أخلاقيا . ولو استطاعت الولايات المتحدة أن تتخلص من هذا الإحساس لأمكنها ، في أجواء الغضب المحموم التي أعقبت أحداث الحادي عشر من سبتمبر ، أن تودع هؤلاء المحتجزين في مكان ما على أراضيها مستفيدة من إجماع ضخم سببه الإحساس بالصدمة ، وسيطرة مشهودة على آلة الإعلام الأمريكية .
ومن المؤكد أن في مقدمة أهدافها استجواب المحتجزين دون الخضوع للقانون الأمريكي ،وربما أصبح من بينها حرمانهم من المحاكمة أمام قاضيهم الطبيعي دون أن يتوقف قرار محاكمتهم على موافقة الكونجرس الذي قد يجد صعوبة على مثل هذا القرار الذي يعد صدوره عنه ، بغير شك منعطفا تاريخيا . وجوانتانامو ، في النهاية ، جزء من الإمبراطورية الأمريكية لكنها ليست أرضا أمريكية .
وهي تعيد العقل الغربي إلى مرحلة الاستعمار العسكري المباشر عندما كانت الدول الاستعمارية الغربية " الليبرالية " تمنح مواطنيها حرياتهم السياسية ، وفي الوقت نفسه تمارس أقسى أنواع القهر بحق الشعوب المستعمرة دون أن تشعر أن في ذلك خرقا لقوانينها .
كما تعيده لنموذج " الجيتو " الذي كان حلا إمبرياليا لإشكالية استبعاد اليهود ، فكانت الدول تفرض عليهم الجيتو ، وتسند إدارته إلى عناصر يهودية وتمنحهم قدرا من الاستقلال الذاتي ، لتبدو حالة العزلة التي كانت تفرضها بنية اجتماعية كما لو كانت قرارا يهوديا.
غير أن الجيتو كان " الأب الشرعي " لمعسكرات الاعتقال النازية ، وهي معسكرات كان معظمها خاضعا لقيادات يهودية تواطأت مع النازي وقدمت له قفازا ليرتكب الجريمة دون أن تظهر بصماته في مسرح الجريمة . ولم يكن هذا ليعفي أيا من الطرفين من المسئولية : القانونية والأخلاقية والسياسية على السواء ، عن هذه الجريمة . ومن المفارقات التاريخية – كما يرى المفكر المعروف الدكتور عبد الوهاب المسيري – أن تأخر ألمانيا عن دخول ساحة التنافس الاستعماري وافتقارها إلى مستعمرات تتخلص فيها من " الفائض البشري اليهودي " ، كما فعلت بريطانيا عندما تخلصت من قسم كبير منه بتهجيره إلى فلسطين ، كان أحد أسباب ظهور صيغة الحل النازي ، كما بلورها أوشفيتس .
وعندما اضطر النازي إلى التخلص من هذا الفائض في قلب القارة الأوروبية اعتبرت أبشع جريمة في التاريخ الغربي الحديث وتحول " أوشفيتس " إلى رمز لهذه اللحظة ، وهو واحد من أشهر الرموز في التاريخ الغربي الحديث ، لكن من أدانوا أوشفيتس لم يعترفوا أبدا أنها ابن شرعي للجيتو ، وأصروا على أنها استثناء في مسيرة التاريخ الغربي . ومقولة " الفائض البشري اليهودي " نفسها مقولة استعمارية نزعت اليهود من السياق الإنساني فكانت مبررا للتخلص منهم كما لو كانوا مجرد نفايات ، وللمفارقة كانت في الوقت نفسه ، مبررا لتقديسهم . وتلك من تناقضات الرؤية المعرفية الإمبريالية . وقد وجدت الولايات المتحدة نفسها أمام التناقض نفسه ، وواجهت المشكلة نفسها حيث هي قوة استعمارية دون مستعمرات ، واختارت جوانتانامو !!
وفي سياق الفكر الإمبريالي الذي ينكر – ابتداء - مبدأ المساواة في الإنسانية مورست لعبة " التلاعب بالتصنيف " فدخلت قاموس السياسة تعبيرات : لاجئون ، ومستوطنون ، واستعمار ، وانتداب ..... ، وعلى يد الكيان الصهيوني ظهر مصطلح " مبعدون " . وأهمية هذا المصطلح الذي ظهر في النصف الأول من التسعينات عندما " أبعد " الكيان الصهيوني بعض قادة المقاومة الفلسطينية إلى منطقة " مرج الزهور " جنوب لبنان ، أنه لم يعتبرهم مطرودين أو منفيين أو مهجرين ، وألقاهم في مكان يقع تحت سلطة الكيان الصهيوني – من خلال جيش لبنان الجنوبي العميل – فهي أرض تخضع للسيادة الإسرائيلية ولا تخضع للقانون الإسرائيلي . ومن ثم فالتجربة كلها تعبير عن ازدواجية أصيلة في الفكر الغربي في ما يمكن أن يسمى " المرحلة الاستعمارية " من تاريخه . والتلاعب بالتصنيف له سوابق في تاريخ الفكر الغربي كلها تتبع نسقا فكريا واحدا ، فالنازيون استخدموا مجموعة كبيرة من التصنيفات التي تبدو محايدة لوصف عملية الإبادة ، فإحدى المؤسسات التي اضطلعت بدور كبير في عملية الإبادة كان اسمهاT 4 وهو اسم لا يحمل أية دلالة ذات صلة بمهمتها ، وحملت مؤسسة أخرى اسم : " المؤسسة الخيرية للعناية المؤسسية " !!، وعملية الإبادة قسمت إلى مراحل . فيتم أولا " الإخلاء " ، ثم " النقل " ، ثم " إعادة التوطين " ، ثم " الحل النهائي " وكلها مصطلحات تبدو محايدة . وأطلق على الضحايا أيضا مجموعة مماثلة من المصطلحات لعل أهمها " الأفواه التي تأكل ولا تنتج " وهو مصطلح كان معناه إبادة مواطنين ألمان كالمرضى بأمراض لا يرجى شفاؤهم وجرحى الحرب الألمان والمسنون ...
وعندما انتهت الحرب بهزيمة النازي مارس خصومه المنتصرون السياسة نفسها ضد الألمان ، فقام الحلفاء بوضع مئات الألوف من الجنود الألمان في معسكرات اعتقال وتم إهمالهم عن عمد بعد تغيير تصنيفهم من " أسرى حرب " إلى " قوات معادية تم نزع سلاحها " ، وهو ما كان يعني حرمانهم من حقوقهم التي تنص عليها اتفاقيات جنيف الخاصة بأسرى الحرب . وكانت النتيجة وفاة 793239 جنديا ألمانيا في المعسكرات الأمريكية عام 1945 ، إلى جانب 167 ألفا قضوا نحبهم في المعسكرات الفرنسية ، رغم وجود 13,5 مليون طرد طعام في مخازن الصليب الأحمر !!
وقام الحلفاء المنتصرون بجريمة أخرى تحت ستار التلاعب بالتصنيف من خلال عملية سميت " عملية نزع الصبغة النازية عن ألمانيا " . وفي إطار هذه العملية أقيمت أكثر من 500 محكمة دائمة فحصت 13 مليون حالة ، يشكلون معظم الذكور البالغين في ألمانيا ، ومثل منهم أمام المحكمة - كمتهمين - ثلاثة ملايين وتسعمائة وثلاثين ألفا . إلى جانب طرد 141 ألف مدرس ألماني من وظائفهم . فهل يمكن في ضوء هذه الحقائق فهم ما يدور من جدل حول وصف المحتجزين ومدى سريان القانون الأمريكي ؟
وهل يمكن إدراك الصلة بين : أوشفيتس ومرج الزهور وجوانتانامو ؟