فرنسا الإستدمارية ..لم ينه وجودها العسكري في الجزائر ..سوى إيمان الأمة الجزائرية المطلق ..بأن قضية الاستقلال ..قضية كبرى يجب الالتفاف حولها..ومدها بالقوة..وبكل ما هو نفيس..وسقيها بالدماء .فبريق الحرية الساحر .. غداة تفجير الثورة التحريرية المظفرة ..شكل من الجزائريين على اختلاف مستوياتهم الثقافية..ومشاربهم المفاهيمية لحمة واحدة ..بحركها الشعور القوي..بأن قيد الاستعمار لابد أن ينكسر .. وللأبد ..ولابد من الولوج إلى التاريخ من بابه الواسع .لقد كانت قضية الاستقلال من كبرى القضايا على الإطلاق .. وضعتها الأمة نصب أعينها..مند انكسار السيادة الجزائرية على البحر الأبيض المتوسط..في معركة "نافرين" الشهيرة ..وتحطيم الأسطول الجزائري آنذاك .. ..ودخول الجيش الفرنسي المتكالب عنوة ..التراب الوطني من بوابة "سيدي فرج".
وقد استطاع التجنيد المفعم بالروح القتالية ..لا الانهزامية ..و التواكلية أن يكسر القضبان الحديدية ..ويحرر قضية الاستقلال من سجنها ..بعد أن كانت حسب المفهوم الفرنسي..
قضية ميتة ..مدفونة في طيات مقولة "الجزائر فرنسية".ولكن ماذا بعد قضية التحرر من سلاسل سياسة فرنسا ..وماذا بعد نيل الاستقلال ..وبلوغ الهدف المتوخى ..والظفر بذلك الحلم الجميل ..في الإنعتاق وشم النسيم النقي الأصيل ..لا يعكر صفوه ..العفن
الفرنسي..فهل تحقق فعلا كل ما كان ينادي به الشعب الجزائري؟ ..بأن الجزائر التي دفعت من رحم ثورتها مليون ونصف المليون شهيد..ستكون فعلا حرة.. بأتم معنى كلمة حرية..
وأن السيادة المغتصبة بالأمس..ستعود سيرتها الأولى..أو أكثر..وبأن الواقع المتردي..المر أيام الاحتلال..سيصَيّره الاستقلال..واقعا..كله رفاهية..وحياة كريمة..وأن الكسرة
اليابسة من "النخالة" بشيء قليل من اللبن البائت..ستصبح أكلة دسمة مريئة.للأسف الشديد كل هذا لم يتحقق..وذهب أدراج الرياح عند عشية الاستقلال..والاحتفال بإفتكاك الحرية المسجونة.. منذ قرن ونصف.لقد كان الاستقلال مطية للانزلاق نحو الخنوع..ورمي المسؤولية التي كانت ملقاة على عاتق الجميع..أيام المواجهة في ساحة الوغى..واللجوء فيما بعد إلى سفاسف الأمور..والاهتمام المبالغ فيه..في اقتناص كل فرصة سانحة ومتاحة للانقضاض..على كل عقار..أو منصب مرموق يدر الربح الوفير.
وكما يقال إذا ضاعت القضايا الكبرى..فسح المجال واسعا للقضايا الصغرى..ولأراذل الأشياء..وبهذا الأمر تضيع الأمة وتضمحل .السلطة في الجزائر تقوقعت..ونست نفسها في برج عاجي..واعتكفت في محراب دجلها السياسي..لاتحركها قضايا الأمة الكبرى ..
و نفس القادة الذين حملوا المشعل التحرري بالأمس ..لم يعد معظمهم يلتفتون إلى ماضيهم و معاناتهم جنبا إلى جنب الشعب الجزائري.. بقدر ما استلذوا بطيب العيش .
والازمة التي يقال أنها وليدة عشرية واحدة ..ليس صحيحا ..لأن الوجوه التي أدارت دفة الحكم ..بعد الاستقلال.. لا تزال نفسها ..تمارس الركض السياسي..داخل نفس السرايا..ونفس البناية.وكان كافيا لتبرير الأخطاء الفادحة..احتضانهم لقضية التحرير
بالأمس..وامتلاك الشرعية التاريخية السرمدية..لأن هده الأخيرة..تجب ما مضى..وما سوف يأتي من أخطاء..وحتى الذنوب-أستغفر الله -.مند الحكومة الأولى ..في جزائر الاستقلال..والأخطاء تستنسخ الأهوال و الموبقات..حتى نصحو سوى على فجيعة..تلو أخرى أو كما قال أحد الشيوخ كل مرة:" تسمع غير ما تكره".
وما مشاكل اليوم إلا نتاج تلك الأخطاء..التي كانت تغسل بماء الشرعية الثورية وكذا الافتقار الحقيقي للذكاء الفطري..وفسح المجال للدجل السياسي la boulitique فبدل أن تقوم السلطة بمهامها..كمشرفة على إدارة الأزمات بحكمة..وبصيرة ..والاهتمام
الحقيقي لكل ما تحتاجه الأمة من قضايا كبرى..كالتطبيق الصارم للديمقراطية..في أجلّ معانيها..ومراميها..وفسح المجال أمام الفئة النخبوية -غير المؤدلجة- من أجل العمل على الارتقاء الحضاري..وبلوغ أوج الازدهار ..وتنقية ثقافة الأمة..التي كانت بالأمس حصنا منيعا ضد الطغيان الاستعماري ..من الشوائب.. والطحالب المضرة..امتنعت.. وأدارت ظهرها غير مكترثة بل انغمست إلى الأذقان..في الاهتمام الأبله..بصغائر الأمور.. ونصب المكائد ..واصطياد الثغرات لكل مخالف.. ومعارض يشكل خطرا عليها..وعلى توجهات سياستها.إن الحرائق التي أصابت الجزائر السلطة سببها.والدور الذي لعبته السلطة في حلحلة القضايا الكبرى لا يمكن أن تختزله إلا كلمة "الدجل السياسي".
وكلنا يعلم كيف حاصرت السلطة المد الشيوعي في بداية الثمانينات ..وكيف استطاعت أن تسحق التيار الإسلامي ..عندما أراد أن يستحوذ على كل مقاعد البرلمان ..في بداية التسعينات .ويبقى حال الجزائر رهن السلطة التي لم تع إلى حد الساعة..أن البوليتيك
boulitique لا يفضي إلا إلى مزيد من الحرائق ..و تمديد رقعة الزلازل المدمرة .. ولن يكفيها الالتفات كل مرة إلى أن قضية التحرير هي أم القضايا..وبالتالي تعفيها من النظر نحو المستقبل ..فما مضى ..قد مضى..وما يبني الجزائر هو الاهتمام وبكل جدية..بالقضايا الكبرى وعلى السلطة أن تبحث أين هي القضايا الكبرى ؟ ..
وشتان بين القضايا الكبرى ..والدجل السياسي..الأولى تجعل الجزائر في مصاف الدول الكبرى ..والثانية تهبط بالجزائر -"لا قدر الله"-نحو واد سحيق .